التاريخ: أيلول ٢٥, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
بين توحيد الجيش وتفريع الجامعة - عدنان الأمين
وفّرت التقاليد السياسية السائدة البديل عن العقلانية الإدارية: يتجمع "أصحاب الحقوق"، يصدرون بيانات، يتظاهرون ويضربون، ثم يتصلون بالسياسيين، ويظهرون المحاباة والولاء اللازمين للتعاطف والحماية، ويتزايدون حتى يتحولوا من أساتذة إلى تجمع يتسم بسمات القوى السياسية الموجودة في الحكم. وفي يوم من الأيام تتضافر الأمور ويصدر القرار عن مجلس الوزراء، وتحل السعادة، وينطفئ المحرك. لكنه لا يلبث أن ينطلق في اليوم التالي على يد الذين لم يشملهم القرار. وهكذا دواليك.

نحن اليوم في مرحلة الاستعداد للائحة الرابعة، بعد مرور ثلاث سنوات على اللائحة الثالثة. نام الذين وردت أسماؤهم فيها ليستيقظوا ويجدوا أن مجلس الجامعة رفض اللائحة بأغلبية 14 مقابل 10. ووجدوا أن الأحزاب الشيعية مع اللائحة والأحزاب السنية والمسيحية ضدها. وتجري الأمور اليوم وكأن كل مكون من مكونات اللائحة المهيضة يسعى إلى استنهاض البيئة السياسية الحاضنة له، ويدور النقاش العام في قلب هذا الاستنهاض، يتصدره طبعا خطاب الجماعتين المعنيتين بالعقدة: الخطاب السياسي المسيحي والخطاب السياسي الشيعي.

انطلق الخطاب السياسي المسيحي من شعار "الفروع الثانية وجدت لتبقى"، الذي سوغ تقسيم الجامعة وعدم العودة إلى ما كانت عليه بعد أن انتهت الحرب. وأضيف إليه مصطلح "اللامركزية" الذي عنى ضمنا أو صراحة تقسيم الجامعة إلى جامعات لبنانية (قيل على غرار النظام السويسري أو غيره).

كما جرى الحديث عن صيغة وسطى تجمع بين الجامعة الواحدة والجامعات المتعددة، على طريقة بعض الجامعات الحكومية الأميركية (كجامعة كاليفورنيا أو جامعة إنديانا وغيرهما) حيث الجامعة الواحدة هي منظومة من الجامعات. وكلها صيغ لتسويغ الفروع الثانية، التي تبعد عن الفروع الأولى بضعة كيلومترات، والتي جعلت الفروع الأولى مجمعا للمسلمين والفروع الثانية مجمعا للمسيحيين (طلابا وأساتذة وموظفين).

كل هذه الأفكار والصيغ استعيدت في مقالة مشير باسيل عون في صفحة "قضايا" بتاريخ 28 و30 آب الماضي. لكنه أضاف عنصرا جديدا على خطاب الفروع الثانية: ضرورة المساواة بين المسيحيين والمسلمين في تعيين الأساتذة في الجامعة، لأن "النتيجة الوحيدة لاعتماد المعايير الأكاديميّة وحسب هي تهميش المسيحيّين في الجامعة اللبنانيّة". وهي إضافة جريئة ولا شك. وصراحته دفعته إلى دعوة "أهل الكثرة اللبنانيّة، وفي مقدّمتهم اللبنانيّون الشيعة واللبنانيّون السنّة، إلى فعل تضحية حضاريّة أو إخلاء كيانيّ راقٍ يُملي عليهم فصلَ التكاثر الديموغرافي عن الاستئثار بالمجال العموميّ واحتكار الإدارة ومضاعفة القوّة". بل دفعته شفافيته إلى الدعوة إلى "قلب النظام الإداريّ في الجامعة اللبنانيّة (ليصبح) شبيهًا بهذا النظام السياسيّ".

التعليق الأول: إن عون يريد جعل النظام السياسي قانونا في حكامة الجامعة اللبنانية، ويسمي ذلك إصلاحا. في حين أن شرط إصلاحها هو فك الارتباط بينها وبين السياسة.

التعليق الثاني: إن الجامعات في دول تقوم على الكانتونات أو الفيدرالية، والتي يتخذها عون مثالا، لا تقترب حكامتها من قريب ولا من بعيد من الاعتبارات السياسية، لا في اختيار رؤسائها ولا عمدائها ولا أساتذتها ولا في تكوين هيئاتها التمثيلية. الجامعات الحكومية في البلدان المتقدمة تصنف في ثلاث أنماط: الهامبولتي والنابوليوني والتسييري (الأحدث زمنيا، والقائم في القطاعين الحكومي والخاص). ويضيف القطاع الخاص النمطين التجاري والأهلي. الجامعة اللبنانية تنتمي إلى نمط سادس: الحكامة السياسية. حالها في ذلك كحال الجامعات العربية الحكومية عامة. لكن الجامعة اللبنانية تبز شقيقاتها بأن السياسة فيها تأتي من تحت أيضا.

التعليق الثالث: إن الجامعات في البلدان ذات التنوع الاجتماعي تستخدم اصطلاح تكافؤ الفرص وليس المساواة. تعبير المساواة يمكن أن يستخدم فقط للجنسين، لأنهما متساويان عدديا في المجتمع. وتستعمل المنظمات الدولية التي ترفع قيم المساواة والعدالة والديموقراطية واللامركزية تعبيري الإنصاف وتكافؤ الفرص. بل لديها مصطلح "مؤشر التكافؤ" للكشف عن تكافؤ الفرص.

أي لو افترضنا أن المجتمع الأميركي يضم 34% من الأقليات (مقابل 66% للبيض)، فان مؤشر التكافؤ في التعليم العالي يكون صحيحا (=1) عندما تكون نسبة من هم في الجامعة من الأقليات مساوية لنسبتهم في المجتمع. وفي حال كان الحاصل أقل من 1 (0,8 مثلا) تكون الأقليات أقل تمثيلا مما يجب لصالح البيض. بل سن الأميركيون قانونا لتوفير الإنصاف سموه العمل الإيجابي. أي إعطاء نقاط إضافية لأصحاب الطلبات من الفئات الأقل تمثيلا (الإناث، الأقليات، الخ).

ليس لدى الأوساط الشيعية خطاب متبلور حول موضوع حصص الطوائف في لائحة الأساتذة المرشحين للتفرغ في الجامعة اللبنانية. حالها الآن كحال الأوساط الإسلامية عموما عندما أنشئت الفروع. كان يجب أن تتعرف الى مناخهم من التصريحات المتفرقة، واليوم من وسائل التواصل الاجتماعي. ومن أشهر كلمات تلك المرحلة: توحيد الجامعة اللبنانية. وما أدراك ما التوحيد.

أولا، ظاهرا كان التوحيد مثاله الجيش اللبناني. وبينهما فرق كبير. الجيش مؤسسة عسكرية تقوم على النظام والهرمية، والجامعة مؤسسة فكرية ميزتها التباين في الرأي والاجتهاد العلمي. ضمنا، كان التوحيد يقوم على الغلبة المتحصلة للمسلمين بفضل اتفاق الطائف والهيمنة السورية على الدولة اللبنانية.

كانت فكرة التوحيد مقاربة أيديولوجية عند القيادات الإسلامية بمقدار ما كانت فكرة التفريع لدى القيادات المسيحية. وكما نعرف فإن القيادات الإسلامية اكتشفت لاحقا منافع الفروع وجعلتها، حيث استطاعت، مناطق نفوذ لا ينافسها فيها أحد، خاصة في الفروع الأولى.

ثانيا، اليوم ثمة سخط في الأوساط الشيعية على وقف مشروع اللائحة الرابعة لأنه يعني إقصاء عدد من المرشحين الشيعة من نعمة التفرغ ولو كانوا يتمتعون بالشروط نفسها التي يتمتع بها زملاؤهم المسيحيين. ويقال إنه لو حصل اتفاق الآن واستبعد نصف الشيعة، فماذا سيحصل في اللائحة الخامسة؟ هل يستبعد النصف أيضا؟ يجب أن نقرأ مقالا لسركيس نعوم في جريدة "النهار" بتاريخ 13 أيلول تحت عنوان "لا تجبروا المسلمين سنة وشيعة على معاودة العد" لكي نتقصى المناخ السياسي الشيعي. فالعنوان راشح عنده من هناك. وهو تغاضى عن القول إن "ورقة إلغاء الطائفية السياسية" المستورة اليوم قد تفتح غدا.

التفكير القائم على الهوية قاتل، ينتقل فورا إلى المقارنة والنزاع مع الجماعة الأخرى. ومقابل شعور الأساتذة المسيحيين بالغبن لأنهم أقلية ينمو شعور بالغبن لدى الأساتذة المسلمين لأنهم أكثرية لا تحظى بالحصة التي توازي حجمها.

إن أصحاب التفكير المدني، من مسلمين ومسيحيين، أساتذة وطلابا وإداريين في الجامعة اللبنانية، وغير الجامعة، لا يقبلون بأقل من فصل "الميثاقية الوطنية" (في المؤسسات الدستورية) القائمة على المساواة، عن طريقة عمل الإدارات والمؤسسات العامة ومنها الجامعة اللبنانية، التي يجب أن تقوم على تكافؤ الفرص.

نحن بحاجة إلى مؤسسة مدنية، تسودها ثقافة القانون والإنصاف والمعايير الأكاديمية. ولا يهمنا أكان الأستاذ مسيحيا أو مسلما، عندما تكون شروط انتقاء الأساتذة "فردية" على مستوى القسم كما في أي جامعة في العالم، ويكون المعيار الأول نوعية المعرفة التي ينقلها الأساتذة لطلابهم وينتجونها. ولا يهم عندئذ أن تكون هناك جامعات رسمية لبنانية عدة، مستقلة عن بعضها أو مندرجة في منظومة. لكن الفروع الأولى والثانية التي أنشئت لأسباب عملية (تجنيب الطلاب والأساتذة مخاطر خط النار الفاصل بين بيروت الغربية وبيروت الشرقة) ثم تحولت إلى واقعة اجتماعية تفصل المسلمين عن المسيحيين في بيروت، ثبت أنها الأسوأ في تاريخ الجامعة اللبنانية، لأنها المَرْكب الأفضل للسياسة. ولن تكون هناك مؤسسة جامعية حضارية من دون اختلاط سكاني.

أما ما فعلته الحكامة السياسية في الحياة الأكاديمية في الجامعة اللبنانية فموضوع يحتاج إلى مقال آخر.

أستاذ في الجامعة اللبنانية