| | التاريخ: أيلول ٢٢, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | الجامعة اللبنانية والسياسة من فوق ومن تحت - عدنان الأمين | كنا قد نشرنا أنا واحمد بيضون وأنطوان حداد وملحم شاوول وخليل نور الدين، كتابا بعنوان "قضايا الجامعة اللبنانية وإصلاحها" (دار النهار، 2000) بناء على تحليلات مفصلة للوثائق ومناقشات مستفيضة مع الزملاء، وقدمنا تشخيصنا لمشكلات الجامعة ووجهة نظرنا في سبل إصلاحها.
فاتنا وقتها أمران.
الأول، أن خطاب القسم حول دولة القانون والمؤسسات الذي "قرأه" رئيس الجمهورية (اميل لحود) في 15/10/1998، هو خطاب مناسبة لن يحمله الرئيس نفسه على محمل الجد.
والثاني، أن جيلا ثانيا من الأساتذة استلم قيادة رابطة الأساتذة المتفرغين. مؤسسو الرابطة ورموزها والذين قادوا تحركات الهيئة التعليمية حتى تلك الفترة كانوا من المستقلين واليساريين والنقابيين، أمثال نزار الزين وصادر يونس وعصام خليفة وفارس اشتي، وغيرهم. بدءا من منتصف التسعينات بدأ الجيل الثاني يحتل مقاعد قيادة الرابطة تدريجيا، ويضم ممثلي الأحزاب والقوى السياسية التي أصبحت في السلطة بالتحالف مع دمشق. وفي دورة 1998-2000، أي في الفترة التي وضِعت فيها دراستنا عن إصلاح الجامعة اللبنانية، كان "الجيل الثاني" يضم: الحزب القومي السوري (الرئاسة)، المستقبل (أمانة السر)، وحركة أمل (الإعلام). فجاء أول هجوم على الكتاب والأكثر شراسة من الرابطة نفسها.
منذ العام 2000 وصولا إلى اليوم، أصبحت رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية هيئة تمثيلية للقوى الحاكمة، بعد أن انضم إليها التيار العوني وأحزاب الكتائب والقوات والاشتراكي وغيرها. كانت هذه صيغة موفقة لجهة التواصل السلس مع أحزاب الحكومة وتحقيق مطالب الأساتذة التي تخصهم، وأبرزها زيادة الرواتب. وموفقة لجهة التكامل بينهما.
وأصبح مجلس الجامعة احدى طبقات هذا البناء السياسي للجامعة. فهو يتكون عن طريق تعيينات حكومية تحفظ لكل فريق سياسي حصته من العمداء، وجاءت معاهد الدكتوراه لتزيد عدد العمداء وتوفر تمثيلا لجميع القوى السياسية. فاذا لم تكن المقاعد كافية يتم اللجوء إلى ما يسمى "ممثلي الحكومة لدى مجلس الجامعة". وبإمكانك أن تسأل عن أي عميد ويأتيك الجواب انه مدعوم من الحزب الفلاني، تماما مثلما يحصل إذا سألت عن أحد الوزراء والجهة التي يمثلها. وفي مثل هذه الحالة لا تمر قرارات معينة في المجلس إلا نتيجة تفاهم سياسي (والرجوع إلى المرجعيات عند الضرورة). ويمكن تصديق الرواية التي تقول إن عميدا اعترض على مشروع قرار للمجلس حاز موافقة الأغلبية، لكن القرار طار لأن العميد المعترض يمثل كتلة سياسية وازنة. كأنك تسمع أخبار الحكومة.
القرار الذي لم يقر يتعلق بتنظيم انتخابات الطلاب. مع تطييره استمر العمل باللجان الطلابية في الفروع من دون نظام، منذ أن أصبح نظام اتحاد طلاب الجامعة اللبنانية لاغيا مع إنشاء الفروع في العام 1977. اللجان الطلابية في الفروع إما أنها تنتخب على قواعد تخص الفروع أو بالوراثة: من يتخرج من حزب معين يورث موقعه في اللجنة الطلابية للفرع لزميل له من الحزب نفسه. وغالبا ما يكون مدير الفرع واللجنة الطلابية من الجهة السياسية نفسها، خاصة في الفروع الأولى والثانية.
كان استحداث الفروع (1977) الحدث الأبرز قبل الطائف في تغير حكامة (حوكمة) الجامعة نحو تغليب السياسة على الأكاديميا. بعد الطائف، حصل التغير الأبرز في العام 1997. في ذلك العام اتخذ مجلس الوزراء قرارا بـ "وقف التعاقد للتدريس في الجامعة اللبنانية إلّا بموافقة مجلس الوزراء" (حكومة رفيق الحريري الثانية). كانت حجة وزير الثقافة والتعليم العالي (ميشال اده) في طرحه لمشروع القرار أن هناك تلاعبا في الجامعة في توزيع الأنصبة على الأساتذة. لم يقرر مجلس الوزراء التحقيق في ادعاء الوزير، ولا رئيس الجامعة اعترض، بل قرر سحب صلاحية التعاقد بالتفرغ من الجامعة ووضعها في عهدة الحكومة.
المهم انه منذ ذلك الوقت وحتى اليوم أصبح قرار التعاقد بالتفرغ في الجامعة يتخذ في مجلس الوزراء، بالجملة (لائحة بمئات الأساتذة دفعة واحدة) وبصورة موسمية. وقد صدرت ثلاث لوائح حتى الآن: 1999، 2008، 2015. وقد شملت اللائحة الأخيرة 1213 أستاذا. وكما هو معروف فان قرارات اللوائح بالجملة هذه هي قرارات توزيع حصص سياسية على أهل الحكم. هي تقاسم غنيمة.
لم يصدر عن رابطة الأساتذة المتفرغين أي تنديد بهذا القرار، ولم نقرأ في لائحة مطالب الرابطة منذ ذلك التاريخ حتى اليوم مطلبا يقول بـ"إلغاء القرار رقم 42 تاريخ 19/3/1997" وإعادة صلاحية إقرار التعاقد إلى القسم، ولم تعلن الرابطة إضرابا واحدا "حتى تحقيق هذا المطلب". لكن جميع بيانات الرابطة تشدد على "استقلالية الجامعة". كذلك لم نسمع منذ ذلك التاريخ حتى اليوم أن رئيسا للجامعة أو وزيرا للتعليم العالي قد وقف وأصر على إعادة سلطة القرار في الموضوع إلى داخل الجامعة. والجميع طبعا يرفع أيضا شعار "ارفعوا أيديكم عن الجامعة".
هذا ليس سكوتا ولا هو تقصير. أبدا. انه نظام: يعين رئيس الجامعة والعمداء والمدراء والأساتذة بالسياسة، وتجري الانتخابات والترشيحات وتكوين لوائح الأساتذة وتكوين اللجان الطلابية بالسياسة. السياسة من فوق والسياسة من تحت، في أوعية متصلة.
السيرة المفصلة لما حدث من تطورات في الجامعة تحت وطأة السياسة منذ العام 1951 حتى العام 2016، كتبت عنها فصلا في كتاب يصدر هذا الأسبوع عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحت عنوان "سير عشر جامعات حكومية عربية". مناسبة العودة إلى تلك التطورات هنا هو وضع سياق لمستجدات النقاش العام حول الجامعة اللبنانية هذه الأيام.
الفروع الأولى والثانية صلب المشكلة
بتاريخ 14 آذار 2018 نشرت جريدة "النهار" خبرا مفاده أن مشروعا للتعاقد مع لائحة جديدة من الأساتذة سقط في مجلس الجامعة بعد أن صوت ضده 14 عضوا مقابل 10 معه. والسبب "الخلل في التوزيع الطائفي" (52% من المدرجين على اللائحة من الشيعة، مقابل 25% من المسيحيين والباقون سنة ودروز وعلويون). ويمكن أن نتخيل الخريطة السياسية في المجلس للموافقين والمعترضين. كان هذا إنذارا مبكرا لما كان سيحصل في مجلس الوزراء لو رفع المشروع كما هو.
سابقا، وغداة صدور قرار اللائحة الثالثة في العام 2015 مباشرة ارتفعت أصوات عدد من الأساتذة تعبيرا عن سخطهم من استبعادهم من تلك اللائحة. قالوا إن لديهم الاستحقاق وانهم استبعدوا لأن غيرهم لديه ظهر سياسي. مبدئيا، جميع المرشحين هم أصحاب "استحقاق" لأنهم يستوفون شرط نيل شهادة الدكتوراه. وهناك لجان في الجامعة تدقق في الملفات. السؤال ليس عن الاستحقاق. السؤال هو كيف ارتفع عدد المرشحين على لائحة التفرغ في غضون فترة قصيرة من 630 إلى 916 إلى 1213، حسبما نشرت الصحف؟ ولماذا كان العمل جار ليل نهار في الجامعة خلال الأسبوع الأخير لتحضير الملفات حتى وصل العدد إلى 1213؟ الجواب معروف: التعليمات السياسية من فوق، وإعادة احتساب الحصص مرة تلو أخرى.
طبعا القوى السياسية في الرابطة والمجلس والحكومة ولجان الطلاب كانوا راضين، ولم نسمع احتجاجا على هذه الطريقة في التعاقد من أحد. علما بان هذه الطريقة، الفريدة في العالم على كل حال، فيها ظلم شديد للأساتذة كأفراد. أنت تستطيع في أي مؤسسة أو في أي شخص يطلب تقدمه لأي مؤسسة أن تعرف الخطوات اللاحقة والمدة الزمنية اللازمة لإنجاز معاملة مثلا. لكن الأستاذ الذي يتعاقد بالساعة في الجامعة اللبنانية من المستحيل أن يعرف ما هي الخطوة القادمة أو الخطوات اللاحقة أو المدة الزمنية اللازمة للحصول على عقد بالتفرغ. لا تنفعه بصارة ولا ينفعه قانون الجامعة لكي يعرف مصيره.
باحث تربوي وأستاذ متقاعد في الجامعة اللبنانية | |
|