| | التاريخ: أيلول ١٣, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | النفايات: أزمة مواطن فاشل - أنطوان مسرّه | أزمة النفايات المتمادية والمتفاقمة والمستمرة والتي نحصر غالبًا التهمة بشأنها في السياسيين هي المؤشر لفشل التربية الاجتماعية في لبنان.
لا نعني هنا بالتربية نقل المعارف والتقنيات والتميّز العلمي في مدارس لبنان وجامعاته التاريخية العريقة، بل نعني التربية الإنسانية المواطنية والأخلاقية والاجتماعية المسؤولة التي تُساهم في التنمية والتغيير الاجتماعي. كلما كانت التربية تلقينية املائية كلما كان تأثيرها على السلوك معدومًا أو ضعيفًا. كان يقول منير شمعون ان التلميذ اللبناني والعربي عامة يُفرغ في امتحان ما يحفظه في كتاب ويكتسب سلوكه في طريقه ذهابًا وايابًا الى المدرسة ومن خلال رفاق العمر والشارع وبيئته الاجتماعية.
ألا نتساءل مثلاً كيف ان التلميذ اللبناني يحفظ غيبًا اشعارًا حول الطبيعة وجمالها ويتعامل مع الطبيعة كمزبلة! لم تؤثر جمالية تعليم الشعر في المدرسة على سلوكه وتعامله مع الطبيعة. ظلت رعيانًا ذهنيًا تجريديًا.
لا يشمل طبعًا فشل التربية الاجتماعية في لبنان كل المؤسسات المدرسية والجامعية. يبذل كثير منها طيلة سنوات وما يزال جهودًا ريادية. لكن الجهود الميدانية محصورة في مدارس وقطاعات مدرسية وجامعية ومناطق وتفتقر هذه الجهود الى سياسة وطنية عامة.
يمكن الجزم بأن التربية الاجتماعية والمواطنية لم تفشل فقط، بل تم ايضًا، بسبب نقص شبه شامل للوعي الاجتماعي، تفشيلها! جنّدت خطة النهوض التربوي في المركز التربوي للبحوث والانماء التي أرسيت مبادئها وبرامجها وتطبيقاتها في السنوات 1996-2002، بخاصة في برامج التربية المدنية والتاريخ، وبقيادة البروفسور منير أبو عسلي، جنّدت أكثر من اربعمائة باحث ومربٍّ. خطة النهوض التربوي الواردة في وثيقة الوفاق الوطني - الطائف، بدعم من الرئيس الياس هراوي والرئيس شهيد الاستقلال الثاني رفيق الحريري، كانت ابرز عمل في السياسة العامة في لبنان والمنطقة لمن يدرك مركزية التربية في التغيير الاجتماعي.
تحرك مدني ام معارضة سياسية؟
يطرح التحرك الاجتماعي الذي حصل على اثر تراكم النفايات في الشوارع السؤال التالي: ما الذي يجعل المجتمع المدني... مدنيًا؟ تحرك هذا التجمع بدون ان ينتج عنه ضغوط على القوى الحاكمة، ولا مبادرات في القرى والبلدات كنماذج معيارية تثير التماثل والاقتداء، ولا متابعة جدّية من قبل القيمين على التحرك، باستثناء بعض المداخلات المركزة اليوم لبعض النواب الجدد ومنهم النائبة بولا يعقوبيان، وطبعًا باستثناء ما فعلته جمعية فرح العطاء ومتطوعوها الشباب في توضيب النفايات في أكياس منعًا لانتشارها في الاحياء بفعل الامطار.
مارس تحرك "طلعت ريحتكم" ضد "الطبقة السياسية" عملاً سياسيًا مشروعًا في المعارضة السياسية وعلى نمط العمل السياسي التقليدي وليس العمل المدني. لم يكن التحرك مدنيًا ضاغطًا كما كانت تفعل لور مغيزل على بعض القوى السياسية في سياق صنع القرار. لم تُرفق المطالبة من خلال النق والتشكي بمبادرات ميدانية محلية وريادية في فرز النفايات من المصدر.
تكمن المعضلة الكبرى اساسًا في المصدر، أي في فرز النفايات في المنزل واعتماد البلديات خطة تثقيفية وتطبيقية في الفرز. في اطار برنامج "الحكمية المحلية" في المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم حصلت خبرات ميدانية في صيدا وزحلة وغيرهما بدعم من البلديات وتم انشاء بعض لجان احياء. لكنه يقتضي المتابعة من خلال المجالس البلدية والمؤسسات التعليمية.
طيلة سبع سنوات، في اطار برنامج بعنوان: "اجمل شرفة وحديقة في حمانا" بالتعاون مع البلدية واشراف هند بو عساف، كان من الضروري لفت انتباه الأهالي بشكل مستمر ان المنظر الخارجي لكل سكن هو ملك المارين والقاطنين في الحي وكل المارين والغرباء. يبدأ ادراك الشأن العام في المنظر الخارجي لمنزلي وشرفتي وحديقتي وسطح بنايتي... لنصعد الى قمة بناء في بيروت وننظر الى سطوح المنازل! لا مشهد اكثر قباحة!
لا يمكن في ازمة النفايات انكار مسؤولية الحكومات وتركيبها وعلاقات النفوذ وتبادل المنافع داخلها، بخاصة اذا كانت برلمانًا مصغرًا. لكن علاقات النفوذ لن تتغير بدون مواكبة مواطنية، ثقافيًا وتربويًا. لننظر الى شوارعنا. ولننظر الى حالة أي صف مدرسي في لبنان حين يخرج منه التلامذة! لننظر الى جوانب طرقاتنا الجبلية المليئة بعبوات البلاستيك والاوساخ وكذلك كل حرج او غابة او حديقة بجانب الطرقات العامة. شرفات منازلنا وحافات طرقاتنا وسطوح ابنيتنا واحراجنا هي كلها غالبًا مزبلة.
معلومات جيّدة... وصف مدرسي وسخ!
ما العمل في سبيل تربية اجتماعية لبنانيًا؟ كل معرفة ننقلها بعد اليوم في المدارس والجامعات اذا كانت لا تؤثر ولا تغيّر في السلوك هي ناقصة وليست عامل تنمية ولا استدامة.
تُطرح اليوم مشاريع حول "المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات" وتعقد ندوات جامعية عالمية حول "المسؤولية الاجتماعية للجامعة". قد تنجرف هذه الطروحات في مسارات متعلقة بالعلاقة بين المؤسسة التربوية والمجتمع ولكن بدون طرح إشكالية المعرفة بالذات في عالم اليوم. بعض الرسائل والاطروحات الجامعية منذ سنوات هي مجرد براعة تقنية في الإحصاء والتحليل والجداول بدون هاجس المسؤولية والفائدة الاجتماعية. انها معرفة للحصول على اعتراف اكاديمي وعلى شهادة وتبرير ارتقاء في التصنيف المهني.
كيف لم ينتج لغاية اليوم وعي اجتماعي لبناني شامل بان "الطبقة السياسية" ليست وحدها المسؤولية عن ازمة النفايات. نحن ايضًا مسؤولون عن "الطبقة السياسية" في الاقتراع الزبائني وعدم المشاركة في الانتخابات وفي السلوك اليومي في نفاياتنا المنزلية وسلوكنا على شرفاتنا ومزابل سطوحنا وفي الحي والشارع. كيف تكون شوارعنا مدرسة في المواطنية؟ ان المعلم الذي يُعطي درسًا جيّدًا في الصف في اللغة العربية او الرياضيات وبأفضل الوسائل التعليمية والتقنيات المنهجية التي يتدرب عليها في دورات مسماة تدريبية، ماذا فعل اذا خرج التلامذة من الصف وارض الصف مليئة بالاوساخ واللوح مُلطخ والطاولات مُبعثرة وبعضها حُفرت عليها كتابات ورسوم...؟ في مناقشة أطروحة دكتوراه سألت الطالب الذي كتب حوالى الف صفحة بكفاءة تقنية ومنهجية تُعتبر علمية: ما العمل؟ كان جواب احد أعضاء اللجنة وهو من كبار الأساتذة في المفهوم الاكاديمي السائد: ليست هذه مهمة الباحث! ما يعني ان المقاربة التطبيقية والاجتماعية والمسؤولية الاجتماعية هي شأن... الوظائف المهنية الدنيا!
ازمة النفايات في لبنان هي المؤشر لفشل التربية الاجتماعية في لبنان مدرسيًا وجامعيًا. باستثناء اعمال ريادية محدودة يتوجب تعميمها في سياسة عامة. لا معالجة جدّية ومستدامة لازمة النفايات في لبنان بدون تربية اجتماعية مسؤولة. انها ازمة تعليم مدرسي وجامعي منعزل عن متطلبات عالم اليوم ومتطلبات لبنانية ملحّة.
عضو المجلس الدستوري | |
|