| | التاريخ: أيلول ١١, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | مقال "الإيكونومست" عن اقتصاد لبنان: زوبعة في فنجان - كمال ديب | نشرت مجلة الإيكونومست البريطانية في مطلع الشهر الحالي مقالاً بعنوان "اقتصاد لبنان في بطء مزمن: أزمة تلوح في الأفق" Lebanon’s economy has long been sluggish. Now a crisis looms.العنوان مثير طبعاً ويغري مراقب الاقتصاد اللبناني أنّه قد يحوي تفاصيل جديدة. فالمعروف لدى عامة الناس - قبل الخبراء - أنّ واقع لبنان الاقتصادي سيئ: من إفلاس شركات وتسريح عمال إلى فوائد مصارف مرتفعة وتراجع في التحويلات من الخارج. كما أنّ ثمّة هاجساً أن القطاع المصرفي قد يتعرّض لعقوبات أميركية وهاجس تصدير الإنتاج الزراعي والصناعي وهاجس تفاقم حجم الدين العام الذي بلغ مستويات غير مسبوقة، وهاجس عدم التمكّن من استخدام ريع ثروة الطاقة في تخفيض الدين العام، وهاجس استشراء الفساد في الدولة.
نذير شؤم ليس في محله
نعم، لبنان يواجه صعوبات اقتصادية حقيقية ووضعه صعب منذ أكثر من عشر سنوات. ولكنها صعوبات لا تنبىء بانهيار وشيك، كما يصرخ مقال مجلة "الإيكونومست" الواسعة الانتشار. وقد يظن المرء أنّ "الإيكونومست" لديها احصاءات أو معلومات خاصة تدفعها للكلام على أزمة.
ولكن بعد قراءة المقال نجد أنّ المعلومات التي يقدّمها معروفة وغير كافية للاستنتاج الذي توصّل إليه كاتب المقال، لا بل هي مرحلية ويمكن أن تزول في أشهر أو عام وليست مزمنة.
ومع ذلك استقبلت بيروت المقال بشبه "يوفوريا" سلبية حيث تداولت وسائل الإعلام من صحف وتلفزة الموضوع من موقع التهويل، واستعمله بعض السياسيين ذخيرة في المشاحنات اليومية. وإن دل على شيء، فرد الفعل على المقال يعكس انبهاراً غير منطقي لدى كثيرين من اللبنانيين والعرب بمجلة أجنبية هي "الإيكونومست" التي يعتبرونها عريقة وقديمة ودقيقة. ولكنهم لا يعرفون أنّ "الإيكونومست" تلجأ أيضاً لأسلوب صحافة صفراء وتكون أداة إعلامية في الحروب الغربية، فهي تعكس وجهة النظر الآنغلو – أميركية المحافظة، وخصوصاً متى تعلّق الأمر بالمنطقة العربية. وليس بعيداً أن يكون المقال جزءاً من حملة ضد الاقتصاد اللبناني تكثفت منذ تشرين الثاني الماضي.
السياحة والعقارات
حول الكلام على انهيار قطاعات العقارات والمصارف والسياحة وسعر صرف الليرة، نكتشف أنّ المقال ينقل مخاوف عدد من الخبراء اللبنانيين من "أزمة تلوح في الأفق". وهو يستعيد إحصاءات دولية معروفة ويقول إنّ السياسات النقدية المُتبعة (من مصرف لبنان) "غير قابلة للاستدامة، وأن أي انهيار في قيمة سعر صرف الليرة سيكون مؤلماً". ولكن كيف ومتى؟ ولماذا سيحصل هذا؟ لا نجد تفاصيل في المقال (وسنعود إلى هذه النقطة). لقد تناول مقال "الإيكونومست" القطاعات السياحية بأنّها لم تعد إلى مستوى العام 2010. ولكنه لم يقدّم أي دليل أو رقم على أنّها تنهار. لا بل يمكن القول من المؤشرات الحالية إنّ السياحة في لبنان تتحسّن وهي تنمو باطراد منذ 2012، ومطار بيروت يعمل فوق طاقته ونسبة إشغال الفنادق مرتفعة والخدمات المرافقة للسياحة في وضع حيوي. والاحتمال الأكثر احتمالاً أنّها ستنمو باطراد في الأشهر والسنوات القادمة إلى مستوى أفضل من العام 2010. ثم تنتقل المقالة إلى القطاع العقاري اللبناني على أنّه "الأكثر إثارة للقلق"، نتيجة تراجع عدد رخص البناء في النصف الأول من عام 2018 (بنسبة 9 في المئة) وانخفاض البيوعات العقارية (بنسبة 17 في المئة) خلال الربع الأول من العام. وأنّ هذا الانخفاض يدفع المقاولين إلى "الخشية من انهيار أكبر مقبل، خصوصاً بعدما أوقف المصرف المركزي القروض السكنية المدعومة فجأة". ولكن هل هذه الأرقام الفصلية دليل على انهيار؟ وهل يعلم مراسل "الإيكونومست" أنّ القطاع العقاري في لبنان هو هكذا منذ أكثر من عشرين عاماً عندما تحدث وزير المال آنذاك جورج قرم عام 1999 عن 150 ألف شقة فارغة في لبنان وبخاصة في بيروت والجبل القريب؟ "الإيكونومست" لم تكلّف نفسها وتدرس قليلاً طبيعة قطاع البناء والعقارات في لبنان حيث لجأ المقاولون في سنوات ما بعد الحرب إلى مشاريع الشقق الفخمة على أساس أنّ ثمّة إقبالاً وبخاصة من أهل الخليج على شرائها، حتى فاق العرض عدّة مرات الطلب في السوق. ولقد تعرّض الوزير قرم لضغوط من المقاولين وأصحاب الأبنية الفارغة ليرتّب لهم شيئاً ليساعدهم فقلب الطاولة عليهم أنّ واجبهم هم مساعدة أنفسهم أولاً وذلك بإعادة تصميم الشقق الفخمة وجعلها وحدات سكنية صغيرة تناسب ذوي الدخل المحدود والمتزوجين حديثاً.
قطاع المصارف
ويشير التقرير إلى قطاع المصارف على أنّه "صلب على الورق" فقط. وأنّ تأكيد مصرف لبنان أنّ الوضع الاقتصادي على ما يرام وأنه يدير أصولاً أجنبية بقيمة 44 مليار دولار من دون الذهب تسمح بخروج لبنان من أي أزمة ليس دقيقاً. وأنّ أرقام القطاع المصرفي "مُضلّلة. وفي حين لا تقدّم "الإيكونومست" ما يثبت زعمها، نقدّم هنا أرقاماً صحية نشرتها أخيراً "النشرة الشهرية" التي يعدّها الإحصائي جواد عدرا: "القطاع المصرفي اللبناني بالأرقام"
- عدد المصارف: 65 مصرفاً تضم 1,079 فرعاً - عدد العاملين: 26,000 عامل - إجمالي الودائع ما يوازي 175 مليار دولار منها 120 مليار بالدولار (يقول مقال الايكونومست 200 مليار دولار) - اجمالي التسليفات للقطاع الخاص: 53 مليار دولار - اجمالي التسليفات للدولة 31 مليار دولار - الأرباح: 1,8 مليار دولار سنوياً.
الليرة بخير
الخوف على الليرة ليس في محله والوضع اليوم لا يشبه الفترة 1986 – 1993 عندما شهد سعر الصرف انهياراً درامياً بسبب الحروب في لبنان والانفلاش المالي وتضخم الاسعار وركود الاقتصاد وتعطّل القطاعات والتجارة الخارجية. والوضع الحالي عام 2018 ليس مثالياً ولكن تجدر أيضاً مقارنته بظروف مرّت على لبنان في السنوات السابقة وبخاصة منذ 2005 والتي كانت أسوأ بكثير من اليوم ولم يحصل أثناءها شيء يُشبه أزمة، لا اقتصادياً ولا مالياً. وربما مصدر الخوف الشعبي هو الحملة الاعلامية السلبية التي تروّج أنّ اقتصاد لبنان وعملته يسيران في منحدر خطر. ولا يمكن تجاهل تأثير الإعلام على النفوس واحتمال أن يؤدي الخوف إلى الضرر بالاقتصاد، ولذلك يجب نشر الوعي وعدم الانجرار وراء الشائعات. والليرة اللبنانية مستقرة وثابتة على سعر 1507 - 1515 ليرة لبنانية تجاه الدولار الأميركي منذ العام 1997 والبنك المركزي يبذل الجهد لتثبيتها باحتياط العملة الصعبة واحتياط الذهب (9 مليون أونصة). ومصرف لبنان لا يثبّت الليرة pegبالمعنى التقليدي ضمن نطاق كما تفعل دول أخرى بل هو يمسكها ولا يجعلها تتحرك (non-pivot).
المؤشرات الماكرو ووضع المالية العامة
ثم تضيف "الإيكونومست" إن لبنان لم يعد قادراً على تحمّل المزيد من الديون العامة، وتنقل عن صندوق النقد الدولي أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي سترتفع من 150 في المئة إلى 180% عام 2023 لتبلغ خدمة الدين 80 في المئة من الإيرادات الحكومية. ولكن خلال خمس سنوات قد يحصل الكثير وليس بالضروري أن تكون كل التوقعات سلبية. والمؤشرات المالية fiscalitéليست مهددة. فالمالية العامة - من ديون وضرائب ونفقات عامة - تحتاج إلى إصلاح جذري. وصحيح أنّ الدين العام في وضع سيئ وغير مسبوق، ولكن حتى يكون في أزمة يعني أنّ الدولة عاجزة عن دفع المستحقات (قيمة سندات الخزينة والفوائد). وهذا ليس وضع لبنان، إذ طالما أنّ الدولة تسدّد المستحقات فهي قادرة على الاستمرار. وأسعار الفوائد في سوق بيروت المالي معقولة ومستقرة وكذلك التحويلات المالية من الخارج وإن كانت أقل من السابق. أما تسليفات البنوك ونسبة نمو الودائع فهي ليست جيدة ولكنها ليست في أزمة. وترى شركة "ستاندرد أند بورز" الدولية - ورأيها بالمناسبة أهم من مقال الإيكونومست - أنّ إيرادات الدولة اللبنانية قادرة على تحمّل عبء الدين بدون صعوبة ولذلك فهي منحت لبنان "التصنيف الائتماني "B-/B" أي "نظرة مستقبلية مستقرة" وأنّ عبء الدين العام في لبنان يستمر بالصعود حتى 2021"، وليس حتى 2023 كما يذكر مقال الإيكونومست. و"ستاندرد أند بورز" تنشر دورياً تصنيفات الديون السيادية وكذلك ديون الشركات والمصارف الكبرى ولها نفوذ كبير في الدول الكبرى التي تتعامل معها بكل جدية.
أمّا المؤشرات الاقتصادية الكبرى macro فهي ليست مهددة: فلا يوجد تضخم أسعار زاحف ولا بطالة مرتفعة غير اعتيادية ولا نمو سلبي. لا بل هناك مراحل تفاؤل قادمة قد يرتفع فيها النمو إلى 10-15 في المئة مع نهاية حرب سوريا وانطلاق إعادة الإعمار وكذلك مرحلة الاستفادة من ثروة الطاقة اللبنانية.
أمّا البطالة فهي مرتبطة بالوضع الاقتصادي الحالي السيئ وليست 30 في المئة كما يكرّر كثيرون. فوفق تقارير البنك الدولي ودراسات الاقتصادي كمال حمدان عن البطالة في لبنان فهي بلغت نسبة 13 في المئة عام 2010، (11 في المئة للرجال الناشطين اقتصادياً و18 في المئة للنساء الناشطات اقتصادياً) ونسبة 30-35 في المئة لعنصر الشباب والمتخرجين حديثاً. وتقدّر نسبة البطالة اللبنانية الإجمالية حالياً بـ20 في المئة وهي نسبة مرتفعة ولكن مع عودة معظم العمال السوريين الإضافيين إلى بلادهم وانتهاء فترة الركود الاقتصادي في لبنان يمكن أن تنخفض هذه البطالة.
وتقول مجلة "الإيكونومست" إن "النمو الاقتصادي لم يرتفع عن متوسط 2 في المئة منذ بداية الحرب السورية". ولكن نسبة النمو هذه (أي 2%) لا تعدّ انهياراً. لا بل إن معظم اقتصاديات الاتحاد الأوروبي الكبرى تقل نسبة نموها السنوي عن 2 بالمئة ولا تعتبر نفسها في طريق الانهيار أو أنّها في أزمة، منها بريطانيا (التي تصدر فيها مجلة الايكونومست) والتي سجّلت نسبة نمو سنوي هي 1,3 في المئة وألمانيا التي سجّلت نسبة 2 في المئة وفرنسا نسبة 1,7 في المئة وإيطاليا نسبة 1,2 في المئة. صعوبات لبنان الاقتصادية كبيرة ساهمت الطبقة الحاكمة في نشوئها بفسادها وعدم تحمّلها المسؤولية تجاه الشعب، إلا أنّ الاستنتاج الأفضل لما تفضّلت به "الإيكونومست" هو ليس أزمة وانهيار، بل إن لبنان يحتاج إلى حلول ومنها ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة والانكباب على إصلاحات جذرية وتشريعات اقتصادية مناسبة لتنشيط الدورة الاقتصادية.
كمال ديب استاذ جامعي وخبير اقتصادي لبناني كندي صدر له عن المكتبة الشرقية بيروت "يوسف بيدس: امبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان" وكتب أخرى.
| |
|