| | التاريخ: أيلول ٩, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | قيامة البصرة - مشرق عباس | مازالت القوى السياسية العراقية تحاول الفصل بين الملاعب املاً بتدليس الحقائق، فملعب صراعها السياسي وتكالبها المحموم على السلطة، لايرتبط مفصلياً بما يحدث على الارض من اضطرابات، ولا يغذي غضب الجمهور، ولا يهدد بقيامات عراقية، كانت قيامة البصرة مشهداً مستقطعاً منها فقط.
ولأنها دائماً مجرد لعبة في المنظور السياسي فان ادارتها تتم مرحلياً، فمرة يظهر السياسي للاعلان عن نيته تقبيل الارض التي يمشي عليها المتظاهرون في البصرة والنجف وكربلاء، وبعد يوم واحد يسارع الى اتهام المتظاهرين انفسهم بانهم مندسين و»دواعش» وبعثيين واميركيين وايرانيين، بل ويحيل القضية الى مشروع سياسي ينفذه على الارض الالاف من الشباب المغرر بهم ضده وضد مشروعه.
وفجأة تصبح «قيامة البصرة» مشهداً صادماً، ومرعباً، وغير مفهوم، ولم يكن كذلك عندما احرق المتظاهرون مقر الحكومة المحلية في البصرة، فقد كانوا يعبرون حينها عن غضبهم فقط! وقبل ذلك كان المشهد مريحاً وطبيعياً عندما اقتحم متظاهرو النجف مطار المدينة، وعندما حاصر متظاهرو الديوانية مقر الحكومة المحلية، وعندما اُحرقت مقرات احزاب في كربلاء وبابل، وحتى عندما اقتحم المتظاهرون المنطقة الخضراء!
الواقع ان تحول مظاهر الاحتجاج الى اعمال حرق او تخريب، هو امر مرفوض، بصرف النظر عن الجهة التي طاولتها يد الاستهداف الشعبي، وهذا المبدأ لو كان حاضراً ومتفقاً عليه على المستوى السياسي لما وصلت الامور في البصرة الى ماوصلت
اليه، لكن الاستثمار السياسي في الحرائق والخرائب والاحداث، هو داء المجموعات السياسية العراقية وهو مقتلها ايضاً.
وبصرف النظر عن البكائيات التي سادت حول السلوك غير الحضاري في التظاهر العراقي، والحسرة على فشل العراقيين الذي دأبت دولتهم على معاملتهم كأسرى وأجراء وادوات للحرب لامواطنين، في الالتزام بمعايير التظاهر الغربية اللطيفة المسالمة والقانونية، فإن اصل القضية يتم تسويفه عندما يحال كل مرة الى مؤامرات وندب للحظ العاثر.
في العراق خلل سياسي منهجي وتأسيسي، يطاول مفهوم الدولة نفسه، ويفكك العقد الاجتماعي بينها وبين شعبها، وهذا التفكك يتخذ في كل مرحلة شكلاً جديداً من التعبير، ويرسل نداءات استغاثة حول مايمكن ان يؤول اليه الامر.
واذا كانت احداث البصرة، في شكلها استغاثة من اجل الماء الصالح للشرب، فإن جوهرها يمثل مطالبة بالدولة، ورفضاً لامتهانها، واملاً باستعادتها من فخ الصراع السياسي الدامي الذي تفشل الانتخابات وآليات ادارة العملية السياسية ونصوص الدستور في عقلنته.
المفاجأة الوحيدة التي كان يمكن ان ينتظرها العقلاء، هي أن تفهم المجموعات السياسية والشركات الحزبية والاجنحة المسلحة الحاكمة في العراق، ان مصير الأمم ليس مادة للاستثمار والابتزاز السياسي، وأن تؤسس لقاعدة من المبادئ التي تمثل سقف مصالح الوطن المتفق عليها، كخطوط حمر لايمكن تجاوزها مهما بلغت شدة الاحتباس السياسي، ومهما تعقد الخلاف في المواقف، فلا يمكن ان تبرر خراباً وحرقاً وهدماً وقتلاً
هنا، وتدين خراباً وحرقاً وهدماً وقتلاً هناك، وان تحرص على «التغيير القاسي» عندما تكون المصلحة العليا للوطن معرضة للنسف والتهديد.
تلك القواعد الغائبة عن المشهد السياسي العراقي، هي محركات العنف والاضطراب والفوضى في الشارع باعتبارها من متبنيات الاحزاب السياسية لا الجمهور المسالم الباحث عن لقمة عيش كريمة، ووطن يحترم آدمية سكانه.
ستكون مفاجأة لو ان تلك القوى المهيمنة اقتنعت بان العراق ملعب واحد وليس ملاعب منفصلة، وان ماحصل في البصرة والنجف وكربلاء، وسبقه في الموصل والانبار، مناسبات لاعادة الحسابات وتبني مواقف موحدة حول آليات الحكم وتعديل الدستور، وبناء مؤسسات الدولة على أسس رصينة تمنع الفساد وتقضي على البيئة المساعدة على الصراع. لكن ذلك لم يحدث، وليس متوقعاً ان يحدث قريباً، لأن اكبر الاهوال في العراق ليست في الاعراف الحزبية سوى فرص للمزيد من التربح والاستغلال وتطوير مواقع التفاوض من اجل المناصب، ولأن اللعب على الاضطراب والارتباك الشعبي دينياً وطائفياً وقومياً ومناطقياً، هو الطريق الاسلم، ليس لان لاطريق غيره، بل لانه الطريق المجرب مراراً وتكراراً فقط. | |
|