التاريخ: أيلول ٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الطائف" كثوب ممزّق وكاشف للعورات - جهاد الزين
لا زال "الصف" اللبناني الذي تركه "الناظر" الصارم حافظ الأسد عام 2005 (نعم 2005 وليس 2000) في فوضى دستورية تتأزّم من وقت لآخر ثم يحلّها مؤقتاً توافق أميركي أوروبي سعودي إيراني بعد تنافر، مرةً عسكري ضخم عام 2006، ومعظم الأحيان أمني سياسي تهويلي.

كان الرئيس الأسد يدير نظامين سياسيين دفعة واحدة واحدا في سوريا وآخر في لبنان. اللاعبون مع الطائف، وقد أصبحوا لبنانيين فقط اليوم، ولو كانوا تابعين خارجياً، اللاعبون مع هذا الاتفاق الذي أشرف على توجيهه بدقة الرئيس الراحل بحصيلة توظيفه لعوامل عديدة، هؤلاء اللاعبون حاليا عدة فئات:

فئة التثليث، أي القوة السياسية النابعة من، الرابضة على، المسيطرة في، الطائفة الشيعية، وهي "حركة أمل" و"حزب الله"، هذه تشدّ الطائف إلى ثلاثية دستورية سلطوية سنية شيعية مسيحية (ورباعية ميثاقية مع الدرزية السياسية) فئة الترئيس، أي القوة السياسية الأولى في البيئة المارونية ذات النتعة المسيحية في الدولة وهو "التيار الوطني الحر". هذه الفئة تشدّ الطائف إلى رئاسة جمهوريةٍ أقوى في الممارسة الدستورية المدعومة بحزب للرئيس في البرلمان وكتلة وزراء في الحكومة وهذا لم يكن موجودا أيام الطائف الأسدي بعد العام 1990.

فئة التجليس وهي القوة السياسية الأولى، ولو المتراجعة، في الطائفة السنية إنما القادرة على حشد تدعيم قوة موقع رئيس الوزراء، وهي تيار المستقبل. موقع رئاسة الحكومة الذي استفاد من التباسات الطائف وإضعاف موقع رئيس الجمهورية.

الفئة الرابعة اليوم بين اللاعبين مع الطائف، هي فئة التطويف التي تبدو الأكثر تمسكا بالطائف الآن بعدما ذاقت الطعم الشهي لِ "لا مركزية" مجلس الوزراء التي أمّنها الطائف (مجلس الوزراء مجتمعاً) كبديل عن عدم وجود موقع رئاسي لها لا تزال تبحث عنه في مجلس شيوخ منشود. هذه الفئة هي "الحزب التقدمي الاشتراكي".

صيغة الرئيس الأسد حجّمت عبر اتفاق الطائف أي قوة لبنانية لصالح غلبة المرجعية السورية ولكنها عززت داخل قاعة "الصف" اللبناني موقع رئيس الحكومة السني فيما أطلقت يد الفريق الشيعي خارج الدولة ودعمت حصتين متفاوتتين ولكن كبيرتين لشيعة الدولة ودرزية الدولة.

لذلك وبعد انتهاء المرجعية السورية فالدولة اللبنانية هي من زاوية التركيب الدستوري السياسي الداخلي جمهورية تناتش دائم بين التثليثيين والترئيسيين والتجليسيين والتطويفيين.

... ولا حل لهذا التجاذب التناتشي، كآلية نظام سياسي. نظام يطول فيه تشكيل الحكومة ولكنها ستتشكّل.

نظام تستقر فيه علاقات الارتباط بالخارج القريب والبعيد ولكنها تتحول، هذه العلاقات، ليس فقط إلى مصدر تصادم سياسي ولكن أيضا مصدر توفيق بين المحليين.

ليس هناك وحديون بين القوى اللبنانية. هناك تعايشيون، وبعد الطائف صار التعايش مؤسساتيا ولو عبر مؤسسات تتآكل كل يوم رغم ما تحمله من مظاهر توسيع للطبقة الوسطى في القطاع العام لن يهددها، أي هذه الطبقة، إلا انهيار سعر صرف العملة الوطنية.

وهنا عليّ أن أضع البورجوازية اللبنانية بصورة وجه خبيث يغمز لأن خفض العملة قد يكون الدواء الخسيس الذي يفكّر فيه البعض (أو يخبئه) لحل أزمة تضخم القطاع العام.

لذلك الطائف اليوم، وخصوصا كما يبدو في أزمة تشكيل الحكومة الحالية، وستُشكَّل عاجلا أم آجلا، يشبه لا اتفاقا وطنيا قائما على وثيقة، بل كرة يتقاذفها مستفيدون سابقون معظمهم حالي لولا التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.

لا سيتمكن اللبنانيون من أن يهربوا من قدرهم المسمى "مجلس الوزراء مجتمعا" الذي جعل الدولة غير ممكنة الحكم من داخلها، وكل توافق فيها يحتاج إلى أكثر من خارج؟ النكتة التي لها نكهة التاريخ أن جيلنا في الثمانينات في عز الحرب الأهلية، بل في عز تعفّنها، كان يعتقد أن مطلب "مجلس الوزراء مجتمعا" هو مطلب إصلاحي ضمن ما كان يسميه كتاب سياسيون رصينون "الإصلاح السياسي"!!!

سنيةُ شيعيةُ درزيةُ "الإصلاحِ السياسي" في الثمانينات وسّعت في التسعينات جهاز الدولة ولكن عطّلته كمركزية سياسية. تنضم الآن المدرسة المسيحية السياسية التي يمثلها "التيار الوطني الحر" إلى نادي الاستمتاع بالتجاذب داخل الطائف. مع أن الواقع أن الطائفيات الرئاسية الثلاث ينحو كل منها، تثليثيا وترئيسياً وتجليسيا نحو تغيير الطائف لو استطاعت إليه سبيلا، كل من موقعه.

يعرف الإقليميون والدوليون النظام الطائفي اللبناني.. ويعرفون أكثر استخدامه ولو أنهم يعرفون صعوبة تغييره. فهو مليء بقوى عميلة لهم مثلما هو مليء بقوى معادية لهم. ولذلك في أزمات التشكيلات الحكومية كما في غيرها يحاول الإقليميون والدوليون تطويعه لا تغييره. والتطويع أقل كلفة وأكثر مردوديةً لبلد صغير هو تحت السيطرة بحكومة ومن دون حكومة.

لذلك لا حاجة للاستعجال في تشكيل الحكومة التي ستتشكّل. "الشبكة" الأمنية السياسية وبالتالي الاقتصادية التي تحمي لبنان لا علاقة لها بـ"كفاءات" قواه الداخلية. وحين تتغيّر هذه المعادلة، المستمرة منذ العام 2011 (بعد هدنة 2009) أي منذ تاريخ دخول أول نازح سوري إلى لبنان، فليس لنا سوى رأفة الآلهة... ولكنها معادلة مستمرة على الأرجح، على الأقل حتى النهاية الرسمية للحرب في سوريا.