التاريخ: كانون الأول ٢٧, ٢٠١٠
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
قراءة في التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية

رفيف رضا صيداوي      

يكرّس "التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية" الصادر حديثاً عن مؤسّسة الفكر العربي تجذّره في الواقع الثقافي العربي، ولاسيما أنه يتبع المنهجية والطرح الشمولي الّلذين اتبعهما في العامين السابقين 2008 و2009، في رصده واقع التنمية الثقافية في البلدان العربيّة كافة رصداً سنوياً، مع غياب أحياناً للمعطيات الخاصة بهذا البلد العربي أو ذاك في حال تعذّر توفير البيانات عنه.

حول المنهج


يقوم منهج التقرير على تناول قضية التنمية الثقافية في العالم العربي من منظار أدوات الثقافة وليس من منظار "الخطاب الثقافي". بحيث رصد التقرير الأول واقع التنمية الثقافية في اثنتين وعشرين دولة عربيّة، متضمّناً خمسة ملفّات أساسيّة هي: التعليم (تنوّع مؤسساته، الفرص الدراسيّة، أزمة ضبط الجودة والإنسانيّات والعلوم الاجتماعيّة في صلب التنمية...إلخ)، الإعلام (بتجلّياته المقروءة والمرئيّة والرقميّة)، حركة التأليف والنشر، الإبداع (بتجلّياته في الأدب، والسينما، والمسرح، والموسيقى، والغناء)، إضافة إلى جزء خاص عن الحصاد الثقافي السنوي في العالم العربي خلال العام 2007 . ورصد التقرير الثاني واقعنا الثقافي العربي من خلال الملفات عينها، باستثناء ملف المعلوماتية الذي حلّ بدل ملف التأليف والنشر. لكن ملف التعليم كان قد تناول هذه المرّة مسألة "التمويل واستقلالية الإدارة في التعليم العالي"، فيما بحث ملف الإعلام موضوع "الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام". ولئن جاء تقرير هذا العام مستبدلاً ملف التعليم بملف "البحث العلمي في الوطن العربي" (مؤشّرات التخلف...ومحاولات التميّز)، مع عودته إلى التأليف والنشر من خلال ملف "حركة التأليف والنشر في العام 2009" (ماذا قرأ العرب في العام 2009؟) وبمزجه بين موضوعيّ الإعلام والمعلوماتية عبر ملف "المعلوماتية" (التواصل الثقافي العربي على شبكة الإنترنت)، فإن زوايا النظر التي عولجت بها الملفات التي تكرّرت في العامين السابقين جاءت مختلفة وغنيّة بدورها، وبما يدعم المنهجية العلمية للتقرير وطابعه العملاني، وذلك انطلاقاً ممّا جاء في تقديم أمين عام مؤسّسة الفكر العربي سليمان عبد المنعم للتقرير بقوله: "لدينا في عالمنا العربي الكثير من فكر "التأصيل والتنظير" الذي يحتاج بالضرورة إلى فكر "الواقع والتفصيل"، بما أن ذلك يمنح الأول المعرفة "التي تتيح له القدرة على الاستشراف واقتراح الحلول".


إلا أن الثوابت التي حرص عليها التقرير في نطاق تناول قضية التنمية الثقافية في العالم العربي من منظار أدوات الثقافة تمثّلت بالآتي:
1 - إبراز الجوانب السلبية والإيجابية من الظاهرة المدروسة.
2- دعم الظاهرة الموصوفة بالأرقام والشواهد والإحصاءات والجداول والرسوم البيانيّة.
3- تغليب المنهج الوصفي على المنهج التحليلي.

بين المنهج والأيديولوجيا


التزام التقرير بمنهجه المذكور يطرح على القارئ السؤال التالي: إذا كان التقرير يحاول نقل صورة الواقع نقلاً علمياً، وموضوعياً، فهل يعني ذلك عدم تورطه في الأيديولوجيا؟
الجواب هو بالطبع النفي، لأن مفهوم الأيديولوجيا حمّال أوجه، ولاسيما بعد كلّ التحولات التي طرأت عليه خلال العقدين المنصرمين، وبعد كلّ المستجدات السياسية والاجتماعية الحاصلة في العالم. إذ بات مفهوم الأيديولوجيا أكثر تعقيداً مما كان عليه من قبل، أي حين كان يحيل إلى جانبه النفعي البراغماتي، خصوصاً على صعيد الخطاب السياسي الرامي إلى إقناع الآخر واستمالته. في حين أن الأيديولوجيا هي أيضاً نظرة أو رؤية إلى العالم، بعيداً عن التعصب السياسي لحزب أو اتجاه، وبعيداً عن المفهوم الأيديولوجي الحزبي. وبهذا المعنى تتغلغل الأيديولوجيا في مختلف القنوات المجتمعية، وفي أدقّ شرايينها على حدّ تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير أنسار. وبهذا المعنى لا يخفى عن التقرير طابعه الأيديولوجي على الرغم من تجرّده من النزعات الحزبيّة أو النفعية وتجاوزه الرؤية الجزئيّة للواقع الثقافي العربي. أما أهدافه التي تصبّ في المصلحة القومية العربية، ولاسيما أنه جاء أساساً لسدّ الحاجات الثقافية للبلدان والمجتمعات العربيّة، فلا تعبّر عن أيديولوجيا ذات رؤية قوميّة جزئيّة بقدر ما تعبّر عن دعوة لاستثمار مختلف للموارد المادية والبشرية المتوافرة في هذا المجتمع العربي أو ذاك من أجل النهوض بالثقافة، خصوصاً بعد التحوّلات الطارئة على مفهوم الثقافة، إذ أضحت عبارة عمّا "ينتجه البشر وليس عمّا يرثونه"، وبعد أن تعدّت كونها قطاعاً خدماتياً لتصبح قطاعاً منتجاً. وبالتالي لم يشر أيّ من التقارير الثلاثة الصادرة عن مؤسّسة الفكر العربي مثلاً، إلى أسباب غياب سياسات ثقافية عربيّة فاعلة، أو إلى أسباب غياب أمّة عربيّة واحدة ومتماسكة من شأنها رعاية الثقافة وتقديم الدعم لها، أو ما إذا كان مفهوم السياسات الثقافية يعني رهن الثقافة للسلطة أم لا، أو أسباب عدم التزام الدول العربيّة بما يكفي، من خلال آليات العمل الوطنية، بالنصوص المطابقة لالتزاماتها الدولية، أو لماذا تمتنع غالبية الدول العربيّة عن بلورة سياسة ثقافية، أو لماذا يقوم البعض منها في المقابل بتملّك الفعل الثقافي ومأسسته...؟


لا أدّعي أن هذه الأسئلة غير ضروريّة أو أنها لا تحتاج إلى مزيد من البحث والنقاش، إلا أنني أحاول أن أبيّن أن هذا التقرير الذي قام على ثوابت عربيّة والذي اختار أن يسعى إلى رصد الواقع الثقافي العربي رصداً حياديّاً، هو، وعلى الرغم من فصله بين "العلمي" و"الأيديولوجي"، يستبطن خطاباً أيديولوجياً ذا رؤية.


يشير ملف البحث العلمي أن ما يصرف على البحث العلمي العربي قليل ويكاد لا يذكر مقارنة بمجموعات الدول الأخرى، حتى الفقيرة منها. بحيث يحتلّ العالم العربي في هذا الشأن موقعاً ملاصقاً لقارة أفريقيا، بمعدلات لا تتجاوز 0,2% من إجمالي الدخل القومي العام. وفي بعض الدراسات، تقارير أن هذه النسبة قد وصلت اخيراً إلى حوالى 0,4 %، فيما المعدلات العالمية للإنفاق على البحث والتطوير تجاوزت 3,73% و3,39% و3,37% في كلّ من السويد واليابان وفنلندا على التوالي، وتتراوح بين 2 و2.5 % بشكل عام في معظم الدول الغربية.


أما في ما يخصّ المكانة البحثية للجامعات العربية، فيطلعنا الملف أنه بحسب أحدث تصنيف معلن لجامعة شنغهاي صدر بتاريخ 15 آب 2010 سجلت جامعتان عربيتان فقط اختراقاً مميزاً. حيث وردت جامعة الملك سعود ضمن مجموعة 301 – 400، بينما وردت جامعة البترول والمعادن ضمن مجموعة 401 – 500 جامعة شملها مؤشر شنغهاي العالمي. وقد تميزت الجامعتان السعوديتان من خلال مؤشرات "الباحثون الأكثر ذكراً في المنشورات العلمية في 21 محوراً علمياً مختلفاً" و"الزيادة المضطردة في النشر العلمي المفهرس عالمياً وكفاءة أداء الباحثين" في كلّ منها. هذا في الوقت الذي غابت الجامعات العربية العريقة والحديثة واحتلت ست جامعات إسرائيلية مراتب متقدّمة أحياناً بين الجامعات الخمسمئة الأولى. أما في تصنيف مجلة "تايمز" البريطانية للعام 2010، فلم تذكر من بين الجامعات العربية سوى جامعة الإسكندرية، وذلك في المرتبة الـ 149 من بين مئتي جامعة.


كما يطلعنا الملف بأن دولاً عربيّة عدّة بدأت تشهد قيام مدن العلم والتقنية، فأحدثت السعودية مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في ثمانينات القرن الماضي، كما أحدثت مصر مدينة مبارك للبحث العلمي في مطلع القرن الحالي، وهي تنتمي إلى الجيل الثاني من مدن العلم والتقنية العربية، وتمثّل مدينة مصدر في إمارة أبو ظبي جيلاً متقدماً من مدن التقنية على الصعيد العالمي. بحيث جمعت "حديقة" أو "واحة" العلم والتقنية الأنشطة البحثية والتعليمية والتدريبية والصناعية والخدمية في موقع جغرافي واحد، بما يسهّل تبادل الخبرات والتعاون بين المؤسّسات التي تعمل ضمنها، فضلاً عن تقديم الدعم لعمليات نقل التقنية إلى مؤسّسات الأعمال، ودعم مهاراتها التنافسية.


ويطلعنا ملف البحث العلمي أيضاً وأيضاً، ومن جملة ما يطلعنا عليه، أن هناك أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنّيين المهرة، من المهاجرين العاملين في الدول المتقدمة، وبأن أميركا وأوروبا تضمّان 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقرير مؤسّسة العمل العربية. فيما تشير التقارير إلى أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم، وإلى أن 34% من الأطباء الأكفاء في بريطانيا ينتمون إلى الجاليات العربية، وأن مصر وحدها قدمت في السنوات الأخيرة 60% من العلميين العرب والمهندسين إلى الولايات المتحدة، فيما ساهم كلّ من العراق ولبنان بنحو 15%. وشهد
العراق ما بين 1991-1998 هجرة 7350 عالماً تركوا بلادهم بسبب الأحوال السياسية والأمنية ونتيجة الحصار الدولي الذي كان مفروضاً على العراق آنذاك.

الأسئلة المضمرة


في تقديم التقرير كلّ هذه المعطيات وسواها، لا بدّ للقارئ أن يتساءل عن أسباب عدم تجاوز معدلات ما يصرف على البحث العلمي 0.2% من إجمالي الدخل القومي العام؟ كما لا بدّ له أن يتساءل ما إذا كانت البنى المؤسّسية الجديدة، من مدن وحدائق وواحات وحاضنات، على أهميتها، كافية وحدها من دون بيئة مؤاتية؟ وما هي العوامل التي تحول دون ضبط ظاهرة "نزف الأدمغة" المستمرّة منذ عقود والتي زادت خلال العقدين المنصرمين؟


أما ملف المعلوماتية الذي ركّز على الدور الوظيفي أو الأدائي للإنترنت في تنمية العلاقة بين منتج الثقافة ومستهلكها، وتحت عنوان "عن أيّ ثقافة رقمية يبحث العرب؟" فقد بدا متوسّط عمليات البحث التي يسعى أصحابها من خلالها للتواصل رقميّاً مع الفكر وأعلامه وقضاياه في الوطن العربي، أقل من نصف متوسّط عمليات البحث التي يسعى أصحابها للتواصل رقميّاً مع مطرب مثل "تامر حسني"، فعمليات البحث التي هدفها الاستهلاك والتواصل معه ومع أغانيه عددها مليونان و742 ألفاً و150 في المتوسّط شهريّاً، وعدد عمليات البحث التي تستهدف الاستهلاك والتواصل مع الفكر ومنتجاته وأعلامه عددها مليون و225 ألفاً و411 عملية، أيّ أن المطرب يتفوق على الفكر بأكمله بـ 220% تقريباً.


ويستمر التدهور في الاهتمام بالاستهلاك والتواصل رقميّاً مع الفكر وصولاً إلى 7656 عملية بحث فقط عن المنتديات والمواقع والأماكن التي تعتبر موارد لمعارف فكرية عبر الإنترنت، ثم إلى رقم أقلّ في ما يتعلق بالتواصل مع عصور الفكر المختلفة، ورقم شديد الضآلة في ما يتعلق بالرغبة في التواصل مع الإبداعات الفكرية، حيث تتدنى عمليات البحث لتصل إلى 1584 عملية بحث في المتوسّط شهريّاً، فضلاً عن بروز رغبة شديدة الخفوت في التواصل رقميّاً مع المؤسّسات الفكرية، حيث تصل عمليات البحث عن هذه النوعية من المؤسّسات إلى 1144 عملية بحث شهريّاً، لينعدم بعد ذلك الاهتمام مع المنشآت الثقافيّة المعنية بأمور الفكر وبالفاعليات الفكرية وبالفكر على مستوى الدول.


ويخلص الملف إلى أن "إنتاج الثقافة العربيّة واستهلاكها رقميّاً عبر الإنترنت وما يكتنفه من تواصل ثقافي رقمي هو حالة "واضحة المرض"، و"واضحة القابلية للشفاء والتعافي"، " فالحالة كما ورد في التقرير ليست وردية لكنها ليست سيّئة على طول الخط كما هو شائع أو يحاول البعض إشاعته وتسويقه من صورة نمطية عن الثقافة العربيّة على الإنترنت وعن سلوك منتجيها وسلوك مستهلكيها ومستوى تواصلهم مع بعضهم البعض.


مرّة أخرى تثار الأسئلة وتتفرّع لدى قارئ نتائج هذا الملف، ولعلّ أول هذه الأسئلة هو التالي: إلام ستبقى الإيجابيات الملحوظة في وطننا العربي عموماً سواء على المستوى التربوي والتعليمي أم على المستوى الإعلامي أم الاقتصادي...إلخ، مستندة إلى مبادرات فرديّة؟ وكيف يمكن الدول إن أرادت- وهي قادرة على ذلك-أن ترسم استراتيجيات من شأنها على المدى البعيد دعم السلوك الإيجابي لمنتجي الثقافة الرقمية ودعم سلوك مستهلكيها ومستوى تواصلهم مع بعضهم البعض؟ ثم ما هي الأسباب التي تحول دون اتّخاذ دولنا القرار بوضع حدّ للاتّجاه التسخيفي التجهيلي في الثقافة العربيّة الرقمية وغير الرقمية؟ خصوصاً إذا ما أدركنا، وكما يفيد ملف "حركة التأليف والنشر في العام 2009"- الذي حدّد هدفه بمحاولة التعرّف إلى نمط من أنماط الحياة الثقافية للمواطن العربي عبر القراءة ومدى إقبال العرب عليها- بأن " الأغلب الأعم ممّن قام بشراء كتب خلال العام 2009 هم ممّن لديهم القدرة على مشاهدة القنوات الفضائية عبر امتلاكهم جهاز ساتيلايت، أو ما يُعرف في بعض الدول العربية بـ "الوصلة" (89.9%)، وممّن لديهم جهاز كومبيوتر في المنزل (92.5%) . والشيء نفسه يتكرّر مع الاعتياد على القراءة، فمن بين ما قالوا إنهم من معتادي القراءة، امتلك 89% منهم ساتيلايت ووصلة، وكان لدى90.6% منهم جهاز كومبيوتر، وهو الأمر الذي يدفع في اتجاه إعادة النظر في العلاقة بين مشاهدة القنوات الفضائية واستخدام الكومبيوتر والإنترنت على عملية اقتناء الكتب في شكلها الورقي أو المطبوع".


إذ تكمن أهميّة هذا الاستنتاج في الدلالة على أن المشكلة في كلّ عصر، وفي بلداننا تحديداً، تكمن في البنية الاجتماعية والسياسية وليس في الجديد، سواء على صعيد القيم أم على صعيد وسائل الاتصال والتكنولوجيا أم غيرها. كما تكمن المشكلة بالتالي في عدم استعداد هذه البنى لاستثمار هذا الجديد وتطويعه، وفي عدم الملاءمة بين الطابع الاستهلاكي والإنتاجي لكلّ جديد بغية استخدامه للإبداع. إذ غالباً ما يتمّ إلقاء الّلوم على الآخرين واتهامهم بغزونا ثقافياً، والبقاء في التبعيّة الاستهلاكية، عوضاً عن العمل على الانتقال إلى ضفة الإنتاج المبدع.

ملفات التقرير ترفد
بعضها بالأجوبة


بعض الأجوبة عن الأسئلة المطروحة أو التساؤلات التي تثيرها معطيات التقرير تجيب عنها أيضاً ملفاته الأخرى، فيلفت ملف السينما مثلاً إلى ظاهرة استجدّت منذ العام 1990 وهي حلول الأفلام الهندية محل الأفلام المصرية حتى أصبح عددها العام 2009 أكثر من ضعف عدد الأفلام المصرية، ولاسيما مع فشل مؤسّسات السينما المصرية الحكومية وغير الحكومية في المحافظة على وجود الأفلام المصرية في الأسواق العربية، والتي كانت امتداداً للسوق المصرية منذ العام 1933. بحيث لا تدفع ثمن هذا الفشل شركات السينما في مصر، وإنما هو يؤثر سلباً على جمهور السينما من العرب من الناحية الثقافية بسبب تزايد تأثير الأفلام الأجنبية وتراجع
تأثير الأفلام العربية المصرية وغير المصرية.
وحين نقرأ أحوال المسرح العربي في العام 2009 نلاحظ تشابه المشكلات وترابطها في العالم العربي، إذ يشير كلّ ذلك إلى عدم دعم الدول العربيّة، وإن بنسب متفاوتة للمسرح الذي يعتبر ركيزة ثقافية أساسية. ومن ذلك مثلاً:


1- غياب أو قصور البنية التحتية (خشبات المسارح المجهزة بكلّ لوزامها التقنية، صالات البروفات وورش العمل، منابر الندوات والملتقيات... إلخ): إذ يشير التقرير إلى انتشار هذه المشكلة في عدد كبير من البلدان العربية. ففي البحرين لا تتوافر دور للعرض المسرحي، وهي مشكلة تتقاسمها البحرين مع أكثر من دولة من دول مجلس التعاون باستثناء السعودية والإمارات، كما تغيب البنية التحتية اللازمة للعمل المسرحي في سلطنة عُمان أيضاً، خصوصاً أن السلطنة لا تعتبر من البلدان الفقيرة من حيث الموارد المالية، في حين تسجّل حالٌ من الكساد المسرحيّ في مصر في العام 2009، ليس بسبب قلّة الإنتاج فقط، وإنما أيضاً بسبب قلّة دور العرض بعدما أُغلقت سبعة من فضاءات العرض المتميّزة في العاصمة، وهي قاعتا "جورج أبيض" الكبرى و"عبد الرحيم الزرقاني" الصغرى في المسرح القومي الذي أُغلق بدوره في العام 2008 بسبب الحريق الذي شبّ فيه.. وتأخّر افتتاح "مسرح الطليعة" أيضاً وكذلك إغلاق "مسرح العرائس" بداعي إصلاحه والذي لم يتمّ افتتاحه إلا في العام 2010.


هذا في الوقت الذي فقد فيه المسرح السوداني الكثير من مميزاته وعناصره المركزية منذ أواخر الثمانينات ولغاية مطالع الألفية، إذ أوقف في تلك الفترة النشاط المسرحي في المسرح القومي، وأُغلق المعهد العالي للموسيقى والمسرح لأكثر من أربع سنوات، وهاجرت نسبة كبيرة من المسرحيّين إلى دول الخليج وأوروبا، وكلّ ذلك بسبب سيطرة بعض التيارات الدينية المتشدّدة.


2- معاناة المسارح من منافسة الدراما التلفزيونيّة: بحيث يعاني المسرح البحريني من قلّة ارتياد الجمهور له، بعد أن باتت الدراما التلفزيونية الخليجية والعربية الناجحة تسرق هذا الجمهور، فيما تراجع المسرح السوري بدوره أمام الدراما التلفزيونية السورية التي نجحت بالفعل وصارت صناعة تخلق فرص عملٍ ممتازة، فضلاً عن عزوف نجوم الدراما التلفزيونية في الكويت عن المشاركة في الأعمال المسرحية، وانصراف العاملين في المسرح الأردني إلى العمل في المسلسلات التلفزيونيّة.


3- التمويل والارتهان للمهرجانات: إذ تعمل الغالبية العظمى من المسارح الفلسطينية مثلاً، وفق مشروعات تمويل من قناصل ومؤسّسات دولية ومحلية، ويغدو أيّ إنتاجٍ مسرحي جديد مرهوناً بتوافر الدعم المالي له، ولا سيما في ظلّ عدم وجود دعمٍ رسمي يُذكر من وزارة الثقافة الفلسطينية التي تعاني هي الأخرى من شُحّ في الموارد وعجزٍ في الميزانية، إذ تبلغ حصتُها من ميزانية الحكومة نحو 150 ألف دولار فقط لا غير!!!. ولئن كان لمبادرة الدولة في دعم المسرح الكويتي الفضل في عودة المسرح وإحيائه، إلا أن سلبياتها على المدى البعيد غلبت إيجابياتها، ليتحوّل المسرح الكويتي من فرق مسرحية تعيش في تنافس إلى فرق تعيش على المهرجانات، فيما أفضت عدم إنتاجية المؤسّسات الثقافية في الحقل المسرحي الّليبي، إلا عبر الارتهان للمناسبات والمهرجانات المرتجلة، وكذلك عدم وجود مشروعات جادة وواقعية للنهوض بالأداء المسرحي، إلى عجز هذه المؤسّسات عن بلورة تراكم للتجربة المسرحية وتصنيفها واستشراف مستقبلها.


4- الافتقار إلى كتّاب النصوص المسرحية: وقد برزت هذه المشكلة في عدد من البلدان العربيّة، ولاسيما في لبنان ومصر.


أما حين نقرأ تشخيص ملف الغناء لواقع الغناء العربي فتزداد أسئلتنا وتساؤلاتنا أكثر فأكثر، وهي أسئلة تجمعها علامة استفهام كبيرة: لماذا تتقاعس الدول أمام المشهد الإعلامي العالمي الراهن الذي يكرّس الإعلام الفضائي وشبكات المعلومات الدولية لترويج الثقافة الاستهلاكية ذات الطابع التجاري؟ ولماذا لم تقدم هذه الدول بعد على طرح تصوّر استراتيجي بديل والإسراع في تنفيذه؟
ويفيد ملف الغناء في محاولته وضع اليد على المزاج العام الذي ساد الشعر الغنائي المعتمد في نتاج العام 2009، من حيث الموضوعات السائدة فيه وأساليب الكتابة والمستوى الشعري العام، بأن المزاج العربي العام في الغناء، أو اليد العليا فيه هي لشركات الإنتاج الرئيسة التي تُصدر الأسطوانة المدمّجة (CD) وشرائط الفيديو الغنائية (video clips)، لأن إنتاج هذه الشركات الرئيسة، وبعض الشركات التي تصنّف من الدرجة الثانية أو الثالثة إنتاجياً، تتحكّم بالمجالين الرئيسين الّلذين يحدّدان إلى مدى بعيد المزاج الغنائي العربي السائد منذ فترة طويلة، وهما: مجال إنتاج الأسطوانة المدمجة وشريط الكاسيت وشرائط الفيديو الغنائي، ومجال أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة في أنحاء العالم العربي التي أصبحت تعتمد كلياً على إنتاج هذه الشركات الرئيسة والفرعية، في ما تقدّمه نهاراً وليلاً للمستمع العربي من المحيط إلى الخليج. إذ تراجعت نسبة الغناء الكلاسيكي التي تذيعها هذه الأجهزة، إلى نسبة تقلّ عن خمسة في المئة، وأصبح الفنّ الغنائي الكلاسيكي العربي، غير ذي شأن في تكوين المزاج الغنائي للإنسان العربي المعاصر إلا بنسبة ضئيلة لا تُذكر، تتعلق بالمكتبات الغنائية الخاصة التي تصرّ بعض البيوتات العربية على اقتنائها، بغض النظر عمّا يصدر لشركات الإنتاج من نماذج الغناء العربي السائر في ركاب الموجة السائدة، وهذا جهد لا يشمل أكثر من واحد في المئة من المستمعين العرب، الذين أصبحوا في غالبيتهم العظمى، يخضعون في تكوين مزاجهم الغنائي العام على ما تُصدره شركات الإنتاج الجديدة.


كما أدّى الانطباع العام الذي تمخضّ عن مطالعة عيّنات من النصوص الغنائية العربية، إلى القول بأن "الغالبية العظمى من الذين يتولّون كتابة النصوص الغنائية في السنوات الأخيرة، بل منذ سنوات طويلة، نادراً ما يوجد بينهم شعراء يلتزمون أصول الشعر وموجباته"، وأن "ما يفجع في الشعر الغنائي السائد اليوم هو غياب الصور الشعرية المبتكرة، ناهيك بغياب الموضوعات الشعرية المبتكرة والمتنوّعة"، وأن "الأغنية العربية كانت في العصور الذهبية (حتى سبعينات القرن المنصرم) تُكتب وتُلحّن وتُغنى في بيئة فنّية وثقافية لها شروط معيّنة، وأصبحت في العصر السائد منذ عقود ثلاثة، تُكتب وتُلحن وتُغنى في بيئة فنية وثقافية لها شروط أخرى مختلفة تماماً. بل إن البعض يذهب في التفسير إلى أبعد من ذلك، فيؤكّد أن روائع الإنتاج الغنائي في العصور الذهبية كانت تولد في بيئة ذات حوافز فنّية وثقافية غالبة".


أما الحصاد السنوي الذي يحصد عادةً أبرز الظواهر الثقافية أو الموضوعات الثقافية التي طبعت العام المعنيّ، فيأتي في ختام تقرير هذا العام، وعلى الرغم من طابعه الحيادي، ليفصح، ولو من دون تعليق، عن أبرز القضايا الإشكالية التي يعاني منها الوطن العربي، والتي تشكّل قضايا مترابطة ومتداخلة، تختلط معها أسباب ما تعانيه أوضاع الثقافة العربيّة بالنتائج. بحيث يشير الحصاد إلى أن المؤتمرات تناولت موضوع الهوية وكانت، مشدودة إلى سؤال الحاضر: أيّ كيف يمكن الهوية أن تكون تحقيقاً للخصوصية لا إعلاناً للحرب على الهويات والأعراق والأمم والثقافات الأخرى. في الوقت الذي تعاظمت فيه أهمية الهوية العربية- الإسلامية في مواجهة الآخر الغربي، وبدت هذه الهوية كما الهوية الوطنية (القطرية) في حال عجز عن استيعاب الآثار المترتبة عن تنامي الهويات الفرعية الدينية والمذهبية والعرقية في كثير من البلاد العربية. كما أشار الحصاد إلى تداول موضوع الديموقراطية، متوقفاً عند ورشة عمل حول مؤشرات قياس الديموقراطية في البلاد العربية نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، وعند المجلاّت العربية الصادرة في العام 2009 بتناولها مفهوم الديموقراطية وتمثلاتها في الغرب وفي العالم العربي، فضلاً عن موضوع الإعلام العربي في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة، وما رافقه من أسئلة كان أهمها: ما إذا كان "الانفجار الإعلامي" في العالم العربي، في الوقت الذي يشهد فيه العالم إغلاق العديد من المطبوعات الصحافية المعروفة، يعود إلى نهضة إعلامية أم إلى أسباب أخرى تتصل بعملية الاستقطاب السياسي الحاصل في العالم العربي". في حين استأثرت الّلغة العربية بالكثير من الاهتمام في ما عقد من مؤتمرات ونشر في الدوريات العربية، المتخصصة منها والعامة، وذلك في ضوء الشكوى المتصاعدة من ضعف الّلغة العربية في التعليم، المدرسي والجامعي، وفي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وفي الحياة اليومية، بالإضافة إلى ضعف الإنتاج العلمي بالعربية، ولجوء العلماء العرب إلى الكتابة بالّلغات الأجنبية، الإنكليزية والفرنسية، إذا قيض لهم أن يتلقوا دعماً لأبحاثهم.


انطلاقاً من كلّ ما ورد، يمكن القول إن التقرير "الوصفي" أفصح، ومن دون أن يعلن ذلك، عن حالة التعثّر والتخبّط التي يعيشها العالم العربي على مختلف المستويات، وكأنه يأتي لنا بالشواهد على أن

أوضاع الواقع الثقافي ليست إلا جزءاً من حالة التخبّط العامة هذه.


ولئن لامست الأيديولوجية المستنبطة للتقرير السياسة، فإنها تكون بهذا المعنى قد أفادت من أحد أبرز سمات الأيديولوجيا السياسية، وهي، على حدّ تعبير بيير أنسار، توجّهها إلى كلّ فرد لكي تجعله يتقبّل طروحاتها ليس بصفتها قاعدة خارجة عنه بل كأنها قاعدة خاصة به. وقد نهض المسكوت عنه في هذا التقرير من حثّ الأفراد والجماعات والحكومات العربية على ضرورة تلمّس أفق التطوير الثقافي وبناء مشروع ثقافي عربي بمنأى عن السياسات القطرية بغية إصلاح واقع الأمة.