| | التاريخ: أيلول ٦, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | ملاحظات على مقابلة رياض الترك: جيل معارض بكامله أفلس في سوريا - جهاد الزين | رياض الترك وزن معنوي مميّز بين المعارضين العلمانيين السوريين. وما أضاف عليه، بل أسّسه مجدداً، أنه من القلة القليلة بل النادرة من اليساريين والعلمانيين المعارضين الذين بقوا على الأرض السورية منذ 2011 فيما كادت أن تفرغ هذه الأرض من هذا النوع من المعارضين خلال كل السنوات الطويلة الماضية، هروباً أو استسهالاً أو اضطراراً.
الرجل لم يدخل في لعبة مصالح مالية ونفعية وهذا أيضا رصيد آخر وسط الفساد العام العلماني الخارجي الذي عَمَّ.
غير أن احترامي لشخصه وسعادتي للقائه ابنتيه (وهذا اللقاء يستحق وحده أن يكون أعلى من أيِّ اعتبار آخر)، لن يمنعني من أن أقيِّم مقابلته مع محمد علي الأتاسي المنشورة في "القدس العربي" يوم 3 أيلول الجاري بعد خروجه مؤخّراً من سوريا بحسب تقرير الأتاسي.
لا شك أن رياض الترك كان نقديّاً في مراجعته للتجربة ولكنني فوجئت بالهوة الواسعة بين آرائه وبين خلاصاته، مع العلم أن أسئلة محاوره الأتاسي كانت تفتح له مجالات نقد جذريّة ولكنه لم يستفد من ذلك حتى بدت الأجوبة أحيانا قاصرة عن ما "تُضْمِره" الأسئلة.
1- ينتقد الترك العسكرة، عسكرة الثورة ويعتبرها أنها أدت إلى الأسلمة وضياع القرار الوطني المعارض.
ما أدى إلى الأسلمة الكاملة للمعارضة الميدانية أكثر تشعبا من ذلك وإن كانت العسكرة هي بكل اختصار جوهري تسليم الحدود السورية وفتحها للقوى الدولية والإقليمية التي اجتاحت الداخل وقضت على الطابع السلمي المدني والديموقراطي للثورة الشبابية المدنية السورية التي عاشت بضعة أشهر فقط "مصرية" و"تونسية". ومن الأسباب، ربما كان فرعيا أو أساسيا، هو تلاشي العلمانيين السوريين من الميدان بحيث لم يظهر رمز واحد مقاتل منهم على الأرض إذا استثنينا حالة رياض الترك وحالة رزان زيتونة ورفاقها الذين خطفهم وقتلهم تنظيم آل علوش الإسلامي والذي سيظهر منه لاحقا كبيرٌ للمفاوضين السوريين هو محمد علوش وسط تأييد المعارضين العلمانيين لهذا الدور مما عنى سكوتهم عن مقتلة زيتونة ورفاقها. ثم أن نظرية اختراق النظام لتنظيم جيش الإسلام العلوشي، التي يشير إليها الترك، لا تثبت أمام اختيار محمد علوش لاحقا من دول إقليمية معادية للنظام في سوريا وفرضه كبيراً للمفاوضين في جنيف.
2- ينتقد الترك سيطرة الإخوان المسلمين على المجلس الوطني وتضييعهم فرص القرار المستقل. هل يجب أن يتوقف الترك عند هذا الحد ، وهو الرجل الشجاع، وقد وصل إلى هذا النقد لحلفائه "السابقين"؟
طبعا لا يجب ولا يجوز أن يتوقف هنا . كنا ننتظر أن يعلن عدم صلاحية الإسلاميين، وفي مقدمهم الإخوان المسلمون، كبديل للنظام والأهم عجزهم عن تمثيل سوريا ديموقراطية تعددية تأتي كبديل للنظام. بل ربما الشجاعة القصوى كانت تتطلب أن يعلن أن بقاء النظام الاستبدادي أفضل من تولّي هؤلاء، ومنهم الوحوش بالمعنى الحرفي للكلمة، للحكم في سوريا. من حق رياض الترك أن يتمسك بسوريا ديموقراطية ولكن بعد التجربة لم يعد من حقه أن لا يعلن عدم الصلاحية المطلقة للإسلام الأصولي السوري.
عزيزي الأستاذ رياض: بعد كل ما جرى ليس هناك مجرمو حرب على جهة واحدة في الصراع. هذا كلام فيه استسهال يجب الكف عنه. مجرمو الحرب على الجهتين وأحيانا وحشية الإسلاميين التكفيريين حتى ضد المعارضين والمدنيين، هي أكبر وأعنف. وأنت لا شك تعرف أمثلة من هذا العنف لا أعرفها. أضف إلى كل البشاعات التي يفرزها المجتمع في لحظة تفككه، ففي الحروب الأهلية، "الإجرام" هو خيار وجودي على كل جهة. نحن اللبنانيين اختبرنا ذلك.
3- نظرية أخرى شائعة ويجري ترديدها، أيضا في أوساط مقيمي الخارج السوريين، هي نظرية عدم الدعم الغربي للثورة السورية. فعلا بعد كل ما حصل يبدو هذا الرأي مضحِكاً. فلم تحظَ أي ثورة من ثورات "الربيع العربي" بالدعم المكشوف والتدخل المباشر العسكري والمالي والبشري كما حظيت المعارضات السورية. لم تُختَرق السيادة المصرية مثلما اخترقت السيادة السورية. وهذه هي العسكرة. ماذا كان ينقص المعارضين غير أن يصل الجيش الأميركي إلى دمشق ويسلمهم السلطة؟! هل هذا هو "الانتصار" الذي يبحثون عنه منذ مدة طويلة؟ كل كلمة عن عدم الدعم الغربي، وهذا مغالط للحقيقة، كانت تعني أن المعارضين في الخارج ينتظرون أن يقوم بمهمة إسقاط النظام جيشٌ أجنبي؟ فلماذا يدينون إذن تلبية الروس لطلب النظام تدخلهم لأن روسيا هي القوة العسكرية الرئيسية الخارجية الحامية له؟
الحقيقة العميقة أن قوى المعارضة لم تعرف كيف تفرض نفسها سياسيا فانسحقت بذاتها وظهر ضعفها الاجتماعي والميداني ما عدا الطائفي؟ وأسْتغرب أن ينضم رياض الترك إلى هذه المعزوفة: يُتْم الثورة السورية.
لم أرَ ثورة لها هذا القدر من الآباء مثل الثورة السورية إلى حد ضاع معه الابن أو البنت. باختصار كنت أنتظر من رياض الترك وهو يدعو إلى أولوية عودة النازحين السوريين أن يعلن أنه يجب وقف الحرب بأي ثمن ومن دون أي شروط.
كتبتُ مرارا أن فكرة الدفاع عن النفس كخيار عسكري جرى استخدامها كغطاء للعسكرة أي لتدخل الجيوش الأجنبية ولا سيما فتح الحدود الشمالية والجنوبية مع تركيا والأردن، بينما الخيار التاريخي لمعارضات تَركتْ بصمتَها على الثقافة السياسية في التاريخ المعاصر كان اعتماد النضال المدني السلمي في مواجهة آلة ضبط بوليسية.
هناك جيلٌ معارض أفلس بكامله في سوريا. و"صحتين" على قلب الذين حصلوا على باسبورات دول غربية، هؤلاء لن يعودوا في أي ظرف مثلهم مثل الكثيرين من النخب الذين من صالحهم بقاء حجة عدم سقوط النظام كمبرر لعدم العودة إلى سوريا. على أي حال هذا ليس تسويغاً للإجراءات العقابية الفظيعة التي يتخذها النظام ضد معارضيه والتي آن أوان تغييرها فعلا كمدخل تصالحي جدي بعد الحرب.
يُغري النقاشُ مع شخصية بتجربة رياض الترك السياسية ومرجعياتها الأيديولوجية الذهاب بعيدا في تاريخ سوريا المعاصر وليس فقط في تجربة الحرب منذ 2011. لو كنت أجلس مع الأستاذ الترك لسمحتُ لنفسي أن أناقش نقطتين - سؤالين تُشغِلان في المسار السوري:
الأول: هل يجوز - تحليليّاً - الانطلاق في توصيف الوضع السوري وتحولاته من استلام الرئيس حافظ الأسد للسلطة وحده عام 1970 أم الأدق منذ المنعطف الأبعد زمنيّاً وهو استلام حزب البعث للسلطة عام 1963؟ فكل ما ظهر لاحقا في عهد الأسد بدأ في عهد البعث الأول وبصورة خاصة الصدام مع الإسلاميين. من يراجع أحداث حماة في النصف الأول من الستينات (1964) سيلاحظ بوضوح كيف أن هذه النخبة الحزبية العسكرية الحاكمة خاض رموزُها يومها صدامات مدينة حماة العنيفة بشكل موحّد كما توضح بصورة خاصة مواقف القيادتين القومية والقطرية الحاسمة ضد متمردي حماة الإسلاميين وبصورة خاصة بيانات الجنرال أمين الحافظ السني (رئيس الجمهورية) وصلاح الدين البيطار السني (رئيس الوزراء) والجنرال محمد عمران العلوي (نائب رئيس الوزراء) وشبلي العيسمي الدرزي (وزير الإعلام ) ونورالدين الأتاسي السني (وزير الداخلية) وعبد الحليم خدام السني (محافظ حماة) وغيرهم ... وسينجح الجيش عبرهم في السيطرة على الوضع لسنوات طويلة حتى بعد انشقاقهم على بعضهم البعض ولكنْ مع بقاء البعث مسيطرا على الموقف.
الثاني: كيف يرى رياض الترك لو نجح الشيوعيون، وهو قائد جناح كبير فيهم، أو لو نجح البعثيون الآخرون في إقصاء حافظ الأسد هل كانوا سيحكمون بطريقة مختلفة عنه وهل كانوا سيوفرون أخصامهم خارج السجون؟ كانت تلك حقبة صراع عقائديين قوميين ويساريين لا مكان فيها للديموقراطية بمعناها الذي سيتحول إليه الماركسيون العرب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؟
النقاش يبدأ أو يجب أن يعود إلى هنا بل قبل ذلك حتى، منذ التحول الوحدوي الناصري؟ وقبل قبل ذلك طبعاً لكن موضوعنا هنا هو "البعث". | |
|