| | التاريخ: أيلول ١, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | بعد إخفاقات الربيع العربي وإحباطات المونديال الروسي - صلاح سالم | كتب كثيرون، وسال حبر غزير في محاولة الإجابة عن سؤال: ماذا حدث للعرب في المونديال الروسي؟ لماذا خرجت الفرق العربية الأربع من الدور الأول، ولم يصعد أحدها إلى الدور الثاني كما حدث في بطولات سابقة، وتحديداً الجزائر والمغرب والسعودية؟ لماذا لعبنا مثل فئران يحفزها الخوف وحده من المحيطين بها، لماذا لعبنا كمن لا يملكون الثقة بأنفسهم، ولا يستطيعون الوقوف على أقدامهم؟
البادي لدينا أن هذا الإخفاق، في جزء كبير منه، ربما كان ناجماً عن حالة الارتباك المجتمعي العام والاضطراب السياسي الذي ترتب على عاصفة الربيع العربي، وما أفرزته من موجات عنف وإرهاب اقتحمت بعض دولنا وأخذت في تفكيك بعضها الآخر، على نحو جعل بقية أوطاننا تحلم بالبقاء وتكف عن الحلم بالتقدم والتحرر، الأمر الذي نقلها من حال الهجوم الحضاري والسياسي لحظة اندلاع تلك العاصفة، إلى موقع الدفاع عن الذات، درءاً لعوامل التفكك دفاعاً عن الوطن، وفق ما يقضي علم السياسة، أو عن المرمى كما تقول أدبيات كرة القدم، ولكل من الحالتين، الدفاع والهجوم، متطلباتها وسياقاتها.
السمة الأساسية لحالة الدفاع كونها سلبية، ترتبط بالعقم، لا تأتي بجديد في أحسن الأحوال، بينما تأتي بالسيئ في معظم الأوقات، لأن المدافع عن نفسه لا يطمح سوى إلى البقاء في مكانه، لا يبارحه. فإذا ما نجح في تحقيق مراده، لم يكسب شيئاً لأن هدفه لم يكن سوى صفر كبير وقد حصل عليه. أما فشله في تحقيق المراد فيعني تراجعه إلى الخلف، أي إلى ما دون الصفر. ولكن جاذبيتها تكمن في سهولتها، إذ لا تحتاج إلى تخطيط مبدع، ولا إلى اتخاذ مبادرات جسورة، ولا إلى شجاعة نفسية، بل فقط إلى تقوقع على النفس. انكفاء على الذات. احتماء بالكهف المحيط والآمن من مخاطر الفضاء الرحيب والواسع خارج ذلك الكهف.
لقد نظر الجميع إلى المدير الفني لمنتخب مصر هيكتور كوبر، باعتباره صاحب إنجاز الصعود لكأس الأمم، ثم المنافسة عليها، لأن الرجل أتى إلى مصر في لحظة صعبة بعد إخفاق غير مسبوق في الصعود إلى نهائيات كأس الأمم لثلاث مرات متتالية، ولم ينتبه أولئك إلى أن الأسباب لم تكن رياضية بل سياسية وأمنية، في ظل حالة عدم الاستقرار، التي اقتضت غياب البطولات المحلية لفترة، وإقامتها من دون جمهور لفترات ممتدة حتى الآن. ولولا هذا السياق لما نظر أحد إلى كوبر باعتباره صاحب إنجاز قبل تصفيات كأس العالم، التي يمثل تجاوزها إنجازاً حقيقياً، لكن العقلية الدفاعية المحضة التي أوصلت مصر إلى النهائيات هي نفسها التي أخرجتها منها سريعاً، لأنها لعبت مع فرق تجيد التنظيم والانتشار، ولديها ثقة وجرأة، على عكس الفرق الأفريقية التي كانت تخشى اسم الفريق المصري.
أما السمة الأساسية لحال الهجوم فتتمثل في طموحها الإيجابي لتحقيق الأهداف الكبيرة، فالهجوم الذكي المخطط، وإن لم تتحقق أهدافه كلها، فإن إنجاز بعضها قد يمنح الكيان قوة الصمود وإرادة التقدم، والأمل في إنجاز ما تبقى. ولكن عيبها الأساسي يتمثل في صعوبتها البالغة وأخطارها الجمة. تتمثل صعوبتها في الحاجة إلى ذهنية خلاقة ومبدعة، تفكر وتدبر. وإلى عزم شديد يبادر ويتحمل. وإلى شجاعة فائقة، تتجاسر وتتقبل النتائج، وتلك جميعها صفات مثالية قد تتوافر للكيان في حالة تيقظه، كما قد تغيب عنه في حالة التيه أو الاضطراب. كما تكمن مخاطرها في ردود الفعل السلبية الناجمة عن الاندفاعات الهجومية، والتي تسمى في دنيا الكرة بالهجمات المرتدة، وفي عالم السياسة بالمخاطر الإقليمية والدولية. فالقرار الجسور للدولة قد يأتي بنتائج عظيمة، مثلما قد يأتي بنتائج وخيمة أو حتى ببعض الأعراض الجانبية غير الهينة. وهنا تأتي أهمية الحنكة والدراية وذكاء الملعب لدى لاعب الكرة ومدربه. كما تأتي أهمية الدراسة والتخطيط لدى مسؤولي الدولة وقادتها، فجميعها مهارات تقلل من الخسائر وتوقعاتها، وتزيد من المكاسب واحتمالاتها، إذ يأتي الهدف الصريح لفريق الكرة بإصابة شباك الخصوم، من دون خطر على شباكه هو، مثلما يتحقق الهدف المجازي لمصلحة الدولة من قبيل التحرر السياسي من دون خطر وقوع الفوضى، أو من قبيل التحرر الاقتصادي من دون وقوع في خطر التبعية للسوق العالمية، وهكذا من أهداف يمكن تحقيقها، مع تجنب الأعراض الجانبية لها، قدر الممكن.
في سياق مثل الانتقال من حال الهجوم إلى وضعية الدفاع، انتقل جل آفات الثقافة والسياسة العربيين إلى حقل التنافس الكروي. فثمة أصداء لظاهرة حكم الفرد في جل أنحاء العالم العربي، أخذت تتردد في ملاعب الكرة ممثلة في التعويل المفرط على «اللاعب الفرد» أو النجم الأكبر باعتباره مخلصاً كروياً، يناظر المخلص السياسي الذي طالما تجسد في حاكم أوحد. فإذا ما تعثر أو أصيب فغاب عن مباراة، انتكس الفريق كله، ومن ثم صارت تسمية منتخب مصر بـ «منتخب صلاح» متداولة ورائجة وغير مستغربة لأن الزعيم الراحل أنور السادات، مثلاً، كان يتحدث عن مصر وجيشها قائلاً: جيشي وشعبي. آفة أخرى تبدت في ملاعب الكرة مثلما هي في ساحات السياسة العربية، تتمثل في التعويل على نظرية المؤامرة التي أدمنها الساسة العرب وبرروا بها إخفاقاتهم المتعددة، التي طالما نسبوها إلى طرف خارجي معادٍ طالما كان إسرائيل الصهيونية أو الغرب الإمبريالي، حتى لو كانت تلك الإخفاقات داخلية تخص الديموقراطية وحقوق الإنسان. النظرية ذاتها استعذبها جل الفرق العربية التي اعتبرت الحكام متآمرين عليها لأنهم لم يحتسبوا هدفاً (حالة المغرب) أو ضربة جزاء (حالة مصر)، على رغم أن ضربة الجزاء الأخيرة كانت لمنتخب عربي شقيق وليس أوروبياً. وبينما استهلكت نظرية المؤامرة الطاقة النفسية للحكام والشعوب فلم يلتفتوا إلى الأسباب الحقيقية للإخفاق السياسي، حتى تنامت، فقد استهلكت النظرية نفسها طاقة الأجهزة الفنية والإدارية في تبرير الهزائم، فلم ينصرفوا إلى تعديل أو الخطط الكروية أو تحسينها. وبالقطع لن يفسر لنا أحد منهم كيف حصلت مصر، مثلاً، على بطولة الأمم الأفريقية ثلاث مرات قبل الربيع العربي، ولماذا أخفقت لثلاث دورات تالية في مجرد الوصول إلى نهائيات البطولة، في مفارقة تاريخية لم تحدث من قبل. وهل كان فوزها نتيجة تحيز لصالحها كما كانت إخفاقاتها بفعل مؤامرة عليها، أم أن الأمر كل محض جاهزية واستعداد، سياقات سياسية وإدارية إيجابية، تتوافر هنا فيكون الإنجاز وتختفي هناك فيكون الإخفاق... إنه درس السياسة والحضارة الذي لا يغيب أيضاً عن عالم الكرة، كونه يجسد منطق التاريخ وجدل الحياة.
* كاتب مصري
| |
|