التاريخ: آب ٢٧, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الخطر الحقيقي ليس خسارة مصر بل تحوّلها "دولة فاشلة" - سركيس نعوم
وسط "همروجة" الزيارات والاعلانات الثنائية بين مصر والولايات المتحدة يكون من السهل المبالغة في تقدير ما تقدّمه روسيا الى الأولى في رأي الباحثين البارزين نفسهما في مركز أبحاث أميركي بالغ الجدّية. فالقروض الروسية التي على مصر تسديدها في مراحل لاحقة يُتفق عليها ليست بديلاً من المساعدات والمنح الأميركية لها، وروسيا ليست في الموقع الذي تحتله أميركا والذي يمكّنها من تسهيل دخول مصر الى العواصم الأوروبية والمؤسسات المالية الدولية. ما تحتاج اليه مصر هو استثمارات خاصة كثيرة وكبيرة الحجم. وهذا ما لا يستطيع الرئيس الروسي بوتين تأمينه لها. إضافة الى ذلك ليس سهلاً على المؤسسة العسكرية المصرية الانتقال في أنظمتها العملانية من أميركا الى روسيا "بكبسة زر" كما يُقال، وخصوصاً بعد أربعة عقود من اعتماد مصر على المعدات والأسلحة الأميركية، فضلاً عن التدريب في كل المجالات باستثناء الدفاع الصاروخي. علماً أن بوتين لم يكن داعماً للرئيس عبد الفتاح السيسي على نحو غير مشروط خلافاً لما يظن كثيرون، كما أن السيسي لم يرحب دائماً بكل العروض التي قدّمها له. فالرئيس الروسي لا يزال يرفض استئناف الطيران المدني التجاري لبلاده رحلاته الى مصر التي كان أوقفها عقب التفجير الارهابي الكارثي في تشرين الأول عام 2015 لطائرة مدنية روسية بعد اقلاعها بركابها وكلهم سيّاح من مطار شرم الشيخ. طبعاً وافق بوتين منذ مدة قريبة على السماح برحلات جوية مدنية – تجارية الى القاهرة، لكنه لا يزال متمسكاً بمنعها من التوجه الى المطارات المصرية في البحر الأحمر. وهي منطقة سياحية كانت تجذب السياح الروس وبأعداد كبيرة. أما السيسي فقد رفض من جهته طلبات روسيا الدخول، أي أن يكون لها حق الوصول والهبوط في المطارات العسكرية لبلاده، وقد يكون السبب احتمال أن يعرّض ذلك للخطر علاقاته مع المؤسسة العسكرية الأميركية. 

ماذا يحصل اذا تهاوت العلاقة العسكرية الأميركية – المصرية لأي سبب كان، وإذا حاول الرئيس السيسي التعويض عنها بالتحالف العلني مع روسيا؟

قد يبدو ذلك من وجهة نظر سطحية تراجعاً آخر لأميركا عن موقعها الذي كان يوماً مهيمناً في المنطقة، يجيب الباحثان الأميركيان البارزان نفسهما. أما من وجهة نظر عملية فإن أثر ذلك على المصالح الأميركية سيكون أقل وبكثير مما كان يمكن أن يكون عليه لو حصل هذا الأمر في السابق أو في الماضي. إذ بسبب سنوات من اهتراء الدولة المصرية أو تآكلها أصبحت لاعباً إقليمياً قدرته أقل من القدرة التي كانت له في عقود سابقة. كما أن قوة المؤسسة العسكرية المصرية صارت مجرد انعكاساً ضعيفاً للقوة التي أظهرتها عام 1973. فالمؤسستان العسكريتان الأردنية والاماراتية على سبيل المثال أصبحتا اليوم أكثر قدرة على إبراز القوة أو السلطة في المنطقة، كما على العمل العملاني مع القوات الأميركية، من المصريين. وباستثناء ليبيا، وهي أكثر أهمية للمصالح الأوروبية منها للمصالح الأميركية، فإن مصر كانت وربما لا تزال رافضة أو غير راغبة في نشر قوات عسكرية لها خارج حدودها. السلطة والقوة في المنطقة، انتقلتا الى الخليج ولا سيما بعدما ازدادت أهمية النفوذ الاقتصادي. كما ان دولاً عربية أخرى بعضها من شمال افريقيا قاربت أن تتفوّق على مصر في مجالات عدّة أبرزها التنمية الانسانية.

وفي حين تبدو إدارة الرئيس الأميركي ترامب مؤمنة بأن دور مصر "مفتاحي" في الصلح الاسرائيلي – الفلسطيني فإن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس لا يبدوان مهتمين بتخطي الخطوط الحمر عند كل منهما بناء لطلب السيسي. طبعاً لا يعني ذلك أن معاهدة السلام الاسرائيلية – المصرية مهدّدة. فهي ذات جذور قوية وصلبة، والعلاقة الثنائية بين مصر واسرائيل دافئة رسمياً وباردة شعبياً. لكنها لم تعد تعتمد كما في السابق على التشجيع والرعاية والادارة من قبل أميركا. والمرجّح طبعاً ان تستمر مصر في السماح للسفن الأميركية بعبور قناة السويس الذي تدفع واشنطن في مقابله للحكومة المصرية بسخاء. ربما يأتي زمن تمنع فيه مصر الطائرات الحربية الأميركية من التحليق في أجوائها ومن الهبوط في مطاراتها. لكن هذا الأمر صار الآن أقل قيمة وأهمية مما كان عليه في السابق ولا سيما في ظل متابعة أميركا ترسيخ موقعها في قطر حيث لها قاعدة عسكرية كبيرة في عيديد. فضلاً عن أن المواقف الأكثر ارتياحاً من اسرائيل لعدد من الدول العربية ربما يفتح الطرق مستقبلاً أمام تنقّل المدنيين بينها والطائرات أيضاً إذا جاز التعبير على هذا النحو. في أي حال من الصعوبة بمكان اليوم تحديد القيمة الصافية لتعاون المصريين والأميركيين في مكافحة الإرهاب. لكن ما نعرفه، يلفت الباحثان نفسهما، أن السياسات المصرية تجعل مشكلة الإرهاب أكثر صعوبة في شكل أو في آخر. ومن مصلحة مصر أن تستمر في حملتها الخاصة على الإرهاب بصرف النظر عن حال علاقتها مع الولايات المتحدة. والخطر، يضيفان، ليس في امكان خسارة أميركا مصر، بل في غرق هذه الأمة البالغ عددها مئة مليون نسمة تقريباً في الظلام أو حتى في "فشل الدولة" جرّاء الحكم الضعيف والعليل والنمو السكاني المتسارع والهشاشة الاقتصادية. وهذا محزن لأن مصر القوية، يمكن أن تكون مصدراً للاستقرار في الشرق الأوسط. أما التنافس مع موسكو على ولائها فلن يغيّر مصيرها الانحداري. كما أن الانقياد للسياسات الخاطئة للسيسي خوفاً من ذهابه الى روسيا لن يفيد بل سيعزّز النتائج المظلمة لمصر كلها. فهي لم تعد جائزة استراتيجية لأميركا أو لروسيا بل تحدّياً.