| | التاريخ: آب ١٦, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | صورة العرب في أخطر تقرير عن الجنس البشري عام 2050 - سليمان عبدالمنعم | هذه المقالة هي خاتمة قراءة لأهم تقارير المستقبل السكاني وأخطرها لما يُتوقع أن يكون عليه العالم عام 2050. وقد صدر التقرير عن شعبة السكان في الأمم المتحدة قبل ثلاث سنوات من دون أن يجد في الفضاء العربي الأصداء التي يستحقها، أو تنظم ندوة أو حلقة نقاش لاستعراض ما تضمنه. أناقش في هذه المقالة اثنتين من الملاحظات المقلقة إن لم تكن «المفزعة» التي تثيرها قراءة هذا التقرير، أولاهما عامة تتعلق بالنمو السكاني الهائل لكوكب الأرض الذي تتضاءل موارده وتزداد مشكلاته وكوارثه البيئية والمناخية يوماً بعد يوم. والثانية خاصة بالمستقبل السكاني للعالم العربي، وباقي الفضاءات السكانية الأخرى في العالم. وفي كل من الملاحظتين ليست الأرقام بذاتها هي المهمة، فالأرقام في النهاية معطيات صماء، إنما الأكثر أهمية وخطورة هو ما تكشفه هذه الأرقام وما يترتب عليها شئنا أم أبينا من تداعيات.
ابتداء، تتفاوت تقديرات المستقبل السكاني للعالم بحسب تقديرين أولهما متوسط يميل إلى التفاؤل بنجاعة جهود السيطرة على الانفجار الديموغرافي في الدول المكتظة الفقيرة، وتقدير آخر مرتفع يبدو متشائماً من هذه الناحية. والملاحظ أن تقرير الأمم المتحدة لعام 2015 World population Prospects يتبنى التقدير المتوسط. ربما لا تحظى تقديرات المستقبل السكاني للعالم في عام 2050 بالطابع اليقيني على رغم أن التقرير هو نتاج عمل خبراء دوليين رفيعي المستوى وصادر من جهة هي الأكثر تخصصاً ودراية في العالم. وارد بالطبع وجود هامش للتفاوت في التقدير المستقبلي لكنه يظل محدوداً ومتعارفاً عليه لدى أهل التخصص. وبصفة عامة فإن عدد سكان العالم في عام 2015 كما يثبت التقرير بلغ 7 بلايين و350 مليون نسمة، ويتوقع أن يصل عام 2050 إلى 9 بلايين و730 مليون نسمة (هامش التفاوت في التقدير لا يزيد على 400 مليون نسمة أي ما يمثل نسبة خطأ مقدارها 4 في المئة فقط).
في شأن المستقبل السكاني للعالم العربي بعد ثلاثة عقود من الآن، تتجلّى المفاجآت تباعاً. فالبلد العربي الوحيد من بين كل الدول العربية قاطبة الذي سيشهد انخفاضاً في عدد سكانه هو لبنان الذي يُتوقع أن ينخفض فيه عدد السكان عام 2050 بنسبة 4.1 في المئة مقارنة بعدد سكانه في عام 2015. وستشهد تونس على الصعيد العربي أقل نسبة نمو سكاني، إذ يُتوقع عام 2050 أن يصبح عدد سكانها 13.4 مليون نسمة بنسبة نمو مقدارها 20 في المئة. حالتا لبنان وتونس لا تعبران البتة عن المستقبل السكاني الذي ينتظر باقي الدول العربية، والذي يصل فيه النمو المتوقع إلى حد الانفجار.
في الوقت الذي يبلغ سكان الدول العربية حالياً 374 مليون نسمة وفقاً لتقدير عام 2015 لشعبة السكان في الأمم المتحدة (إذ يبدو أن هناك تقديرات أخرى متفاوتة قليلاً) فالمتوقع أن يصل هذا العدد إلى 686 مليون نسمة بحلول عام 2050. دولة عربية مثل اليمن سيقفز عدد سكانها ثلاثة أضعاف تقريباً ليصبح 74 مليون نسمة بدلاً من 27 مليوناً حالياً. وسيصل عدد سكان السودان في 2050 إلى 80 مليون نسمة بدلاً من 40 مليوناً. وسيصل عدد سكان العراق البالغ حالياً 36 مليون نسمة إلى 84 مليون نسمة. والصومال الفقير المنهك سيبلغ عدد سكانه 27 مليون نسمة بدلاً من 11 مليون نسمة حالياً. ويتوقع أن يصل عدد سكان سورية الجريحة إلى 35 مليون نسمة بدلاً من 19 مليوناً حالياً. يحار المرء كيف يمكن دولاً ذات موارد محدودة أو قابلة للنضوب تحتل مواقع جيوسياسية دقيقة مثل اليمن والصومال والسودان والعراق ومصر وسورية أن تتحمّل هذه الزيادات السكانية المستقبلية وهي التي تنوء منذ الآن وبنصف عدد سكانها المتوقع بعد ثلاثة عقود بأثقال اقتصادية ومعيشية واجتماعية شتى. ستشهد دول الخليج أيضاً نسبة نمو سكاني كبيرة لكن عدد سكانها سيبقى الأقل وسط انفجار التجمعات السكانية العربية الأخرى. فالسعودية الأكبر في دول الخليج سيصل عدد سكانها إلى 46 مليون نسمة بحلول عام 2050 بنسبة نمو مقدارها 44 في المئة. وسيناهز عدد سكان الإمارات 13 مليون نسمة بنسبة نمو تبلغ 42 في المئة.
تبقى الحالة المصرية ذات فرادة خاصة ومثيرة لتساؤلات مقلقة، ليس فقط بحكم زيادة سكانية متوقعة تصل إلى 151 مليون نسمة بنسبة نمو 64 في المئة ولكن أيضاً وعلى وجه الخصوص بالنظر إلى الانفجار السكاني الذي يتوقع أن تشهده منطقة حوض النيل ذات الارتباط الوثيق بقضية المياه وسد النهضة الإثيوبي وما سوف ينشأ عن ذلك من تحديات وجودية. هنا نكتشف أن ست دول من حوض النيل ستأتي عام 2050 ضمن قائمة الخمس وعشرين دولة الأكثر نمواً سكانياً في العالم كله، أبرزها الكونغو الديموقراطية بعدد سكان متوقع يصل إلى 195 مليون نسمة في المركز التاسع عالمياً، وإثيوبيا 188 مليون نسمة في المركز العاشر ثم مصر في المركز 12، وأوغندا في المركز 18، وكينيا في المركز العشرين. هذا يعني بلغة الأرقام وبلا أي تنظير أنه بحلول عام 2050 سيصبح إجمالي عدد سكان دول حوض النيل 869 مليون نسمة (!) وما زالت مصر حتى اللحظة هي الأفقر من بين دول حوض النيل في نصيب الفرد سنوياً من المياه، إذ لا يتجاوز 20 متراً مكعباً سنوياً، وهو أقل 600 مرة من نصيب الفرد في إثيوبيا، وخمسين مرة من نصيب الفرد في أوغندا. هذا المستقبل السكاني والمائي لمصر يفرض ضرورات للتفكير والتخطيط والتدبير لا تقتصر فقط على الاستراتيجيات الحكومية بل تشمل أيضاً ثقافة المجتمع ذاته في عادات وتقاليد استخدامه للمياه.
قضية المياه في ظل مستقبل التضخم السكاني العربي لا تخص مصر فقط على رغم جريان نهر النيل في أراضيها بقدر ما تتعلق أيضاً بكل الدول العربية، بل لن تكون المياه وحدها هي التحدي المستقبلي الوحيد، إذ سيكون مطلوباً بعد ثلاثين سنة منذ الآن توفير حاجات سبعمئة مليون عربي من الغذاء، ومقاعد الدراسة، وأسرة المستشفيات، ووسائل النقل والمواصلات، ومستلزمات الطاقة. هذا الرقم بذاته كفيل بأن يدق كل نواقيس الاستنفار والخطر في الآذان العربية. وإذا كانت كل دولة عربية ستواجه على حدة عام 2050 تحدياتها ومشكلاتها الخاصة، فهذا لا ينفي أن العرب كأمة سيواجهون تحديات إضافية أخرى مشتركة تتعلق بوحدة جغرافيتهم السياسية في ظل المتغيرات والاضطرابات التي تسود المنطقة.
السؤال هو: هل يبدو مستقبل التضخم السكاني العربي حتمية سلبية نذيرة بالشؤم أم إنه يمكن أن يتحوّل من عائق إلى فرصة؟ لدينا في الواقع تجربة حية ماثلة نطالعها ليل نهار تجسدها الصين التي فعلت ما يشبه المعجزة، فها هي اليوم لا تملك سوى 7 في المئة من مساحة الأراضي الزراعية في العالم وتطعم أكثر من 20 في المئة من سكان العالم وتوفر لشعبها خمسة ملايين وجبة غذاء يومياً. والصين التي منذ مئة عام ونيف لم يكن عدد الذين يعرفون حساب التفاضل والتكامل فيها يتجاوز عشرة أشخاص، هي اليوم الدولة التي أطلقت ثلاث مرات سفن فضاء مأهولة وأصبحت مصنع العالم وفق ما يقُال. ما زال العرب قادرين إذاً على تحويل معضلتهم السكانية إلى فرصة على رغم أن سؤال القدرة لا يكتمل بغير سؤال الإرادة.
إذا تجاوزنا الحالة العربية، فإن تقرير آفاق السكان في العالم يقدم تقديرات مفزعة تخص مستقبل النمو السكاني في المجتمعات الإسلامية. أقول «مفزعة» لأن إحدى الأساطير التي تأسست عليها رؤية «صمويل هينتنغتون» في كتابه الشهير عن صدام الحضارات تنطلق من تتبع خط النمو السكاني المتصاعد للعالم الإسلامي مقابل مثيله الغربي الآخذ في انخفاض متواصل على مدى القرنين الأخيرين. العقل الباطن الغربي المهجوس بالنمو السكاني للمجتمعات الإسلامية، وهي الظاهرة التي تلامس بشدة الأعصاب السياسية والأمنية في العالم الغربي، ستزداد هواجسه ومخاوفه، لا سيما في ظل تقاطع النمو السكاني للمسلمين مع تيارات التطرف والإرهاب. هنا تبدو التقديرات لافتة للانتباه ومثيرة لتساؤلات كبرى اقتصادية، وسياسية، وأمنية، واستراتيجية، إذ يبلغ حالياً عدد سكان المجتمعات الإسلامية بليوناً و610 مليون نسمة بحسب تقدير مركز Pew research Center للأديان والحياة العامة في واشنطن في عام 2010. وبحلول عام 2050 سيقفز عدد سكان المجتمعات الإسلامية ليصل إلى 2 بليون و660 مليون نسمة أي 3 بلايين تقريباً بإضافة عدد المسلمين في دول غير إسلامية (يبلغ عدد المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي 16 مليون نسمة والهند 217 والصين 23 ). هذا يعني أن يمثل المسلمون أقل قليلاً من ثلث عدد سكان العالم المتوقع بعد ثلاثة عقود من الآن. هذا المشهد يعني أن حالة الإسلاموفوبيا التي تجتاح العالم مرشحة لأن تتصاعد وتتعقّد. وما لم يُبذل جهدٌ كبير ومخلص وعاقل من الجانبين المعنيين بالظاهرة، أي من الجانب الإسلامي والجانب الغربي، فلا أحد يعرف أي مستقبل مقلق ينتظر الجميع.
والواقع أن اختلاف نسبة النمو السكاني في العالمين العربي والإسلامي من ناحية والعالم الغربي والدول الآسيوية المتقدمة من الناحية الأخرى، إنما يعكس تفاوتاً في مستويات الوعي وطرائق التفكير وعقلانية التعامل مع القضية السكانية لدى كل من الطرفين. ففي الوقت الذي تعاني معظم المجتمعات العربية والإسلامية من ظروف اقتصادية ومعيشية بالغة الصعوبة، فإن نسب النمو السكاني آخذة في التصاعد من دون أن تأبه كثيراً بهذا الواقع على نحو ما تؤكده الأرقام السابق ذكرها، وعلى العكس فإن المجتمعات الغربية والآسيوية التي تعيش ظروفاً اقتصادية ومعيشية أفضل هي التي سينخفض فيها عدد السكان بحلول عام 2050. ومن المثير للانتباه أن قائمة الأربعين دولة الأكثر انخفاضاً في عدد السكان بعد ثلاثة عقود من الآن لا تتضمن من الدول العربية سوى لبنان كما سبقت الإشارة، أما في المجتمعات الإسلامية فلا نكاد نجد سوى البوسنة والهرسك التي سينخفض عدد سكانها بنسبة 19 في المئة خلال الفترة ذاتها.
ما يُلفت بشدة في المستقبل السكاني للجنس البشري في عام 2050 أن التقديرات المتوقعة لأكثر دول العالم تقدماً ورفاهية اقتصادية ستشهد انخفاضاً مقارنةً بعدد سكانها الحالي. ففي أوروبا الغربية، سينخفض عدد سكان ألمانيا بنسبة -8 في المئة، وكذلك سينخفض عدد سكان إيطاليا وإسبانيا والبرتغال. كما سينخفض عدد سكان الصين بنسبة طفيفة وهي الدولة التي طالما عاشت هاجس الانفجار السكاني. وكذلك اليابان بنسبة -15 في المئة، وروسيا الاتحادية بنسبة -10 في المئة. المفاجأة أن أكثرية دول شرق أوروبا ووسطها ستشهد في ظل هذه التقديرات المتوقعة نسبة انخفاض سكاني كبير مثل بلغاريا -28 في المئة، ورومانيا -22 في المئة، وأوكرانيا -21 في المئة، وبولندا -14 في المئة. والمفاجأة الأخرى أن هناك دولاً غربية مهمة ومؤثرة ستعرف على العكس ظاهرة نمو سكاني ملحوظ وأبرزها الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا وفرنسا، إذ سوف تشهد بحلول عام 2050 نسبة زيادة سكانية متوقعة تبلغ +21 في المئة في أميركا، و+15 في المئة في إنكلترا، و+11 في المئة في فرنسا. بالطبع، سيكون لدى أهل التخصص ما يقدمونه من تفسيرات وشروح لهذا التفاوت في المستقبل السكاني لأكبر دول العالم، انخفاضاً أو زيادةً، لكن، ماذا لدينا من شروح وتفسيرات لكون أكثر مجتمعات الأرض فقراً ومعاناة معيشية ستصبح عما قريب هي الأكثر اكتظاظاً سكانياً؟ وكيف أنه في ظل التقديرات المتوقعة لعام 2050 سيشهد العراق نسبة نمو سكاني +133 في المئة، والسودان +100 في المئة، واليمن +74 في المئة، ومصر +64 في المئة، والجزائر +40 في المئة، والمغرب +29 في المئة؟
وجه آخر من المفاجآت التي يحفل بها تقرير «آفاق السكان في العالم» يتعلق بالمتغيرات المتوقعة في عام 2050 بحسب الشرائح العمرية للتركيبة السكانية في الكثير من بلدان العالم. ومن دون الدخول في تفصيلات هذه المتغيرات السكانية (ويمكن الاطلاع عليها بالرجوع إلى التقرير ذاته) فإنها تكشف بجلاء مستقبل كهولة سكانية للمجتمعات الغربية واليابان والصين وروسيا مقابل فورة شبابية لمعظم، إن لم يكن، كل المجتمعات العربية والإسلامية والأفريقية والهند. أهمية، إن لم تكن خطورة، مسألة الكهولة السكانية لا تقتصر فقط على آثارها الاقتصادية والإنتاجية وقوة العمل ولكنها تشمل أيضاً تداعيات غير مباشرة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، لا سيما في المجتمعات التي ستشهد ظاهرة الفورة الشبابية أي الزيادة السكانية الكبيرة في عدد النشء والشباب بالنسبة إلى إجمالي عدد السكان، وهي الوجه العكسي لظاهرة الكهولة السكانية. الأمر الذي تجلّى بوضوح في حركات الاحتجاج الشعبي للشباب في أكثر من بلد عربي في عام 2011.
في نهاية المطاف، فإن تقرير «آفاق السكان في العالم»، وبخلاف ما يزخر به من إحصاءات وأرقام يضعنا كأمة عربية وجهاً لوجه أمام أسئلة وجودية كبرى، لن يكون أولها سؤال التحديات الاقتصادية وغياب التكامل الاقتصادي العربي، ولن يكون آخرها سؤال الأخطار السياسية التي تهدد الخرائط الجيوسياسية للدول العربية، في عالم تتسارع أحداثه وتتصارع متغيراته.
* أستاذ القانون في كلية الحقوق - جامعة الإسكندرية | |
|