| | التاريخ: آب ٩, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | في الهزيمة المذهبية للسوريين - سميرة المسالمة | لم تستطع القوى التي تصدرت المشهد السوري، على جانبي الصراع، طرح منظومة أخلاقية تستنهض من خلالها السوريين، للالتفاف حولها في مواجهة منظومة الفساد والاستبداد التي رسّخها حكم الأجهزة الأمنية، منذ تولي رئيس «المكتب الثاني» (المخابراتي) زمن الوحدة مع مصر، إضافة لمهامه في الداخلية، تعيينات وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الأوقاف، ورئاسة المجلس الأعلى للتعليم، ما يعني ربط المجتمع بكل تفاصيله برجال الأمن والاستخبارات.
هذا الوضع لا يزال قائماً حتى يومنا الآن، عاكساً واقعنا المأسوي، حيث ورثت أجهزة النظام الأمنية (17 جهازاً) «المكتب الثاني»، بكل تفاصيل عمله، وطورتها بما يخدم تمكينها من استلاب كل أنواع الحريات، بحيث أصبحت فيه حتى القراءات النقدية للوحات الفن أو قصائد الشعر، تمر عبر انطباعات أزلام تلك الأجهزة وعملائهم، ما يتجلى اليوم في ادعاء هذا النظام تحديث الخطاب الديني، الذي يرتكز - وفق وزير أوقاف سورية- على فكر «السيد الرئيس» ومحدداته لتفسير نموذجي للقرآن، واستخدام المنظومة الدينية لتطويع الأفكار الشعبية لاستمرار الهيمنة واستغلال السوريين.
في الوقت ذاته فإن المحسوبين على كيانات المعارضة يواجهون تطورات الحياة في القرن الواحد والعشرين بالعودة إلى التفسير السلفي للدين، والذي أنتج ما يمكن تسميته الهزيمة السياسية للتيار الإسلامي في كل أنحاء العالم. وعلى رغم أن تدين السوريين كان يوصف دائماً بـ «الوسطي»، إلا أن الصراع على السلطة، خلال تطور مراحل الثورة منذ 2011 وحتى اليوم، أنبت تيارات دينية عديدة على السطح، استطالت ونمت مستغلة ظروف القهر والظلم التي يعيشها الشعب السوري، وحتى انها طغت على قيادة بعض كيانات المعارضة، لتمارس من خلال ذلك سلطتها في إدارة الصراع مع النظام، وكأنه صراع على المذاهب الحاكمة.
وبذلك حققت هذه المجموعات الدينية- بقصد أو عن غير قصد أحياناً- الغاية التي سعى إليها النظام، بإبعاد الثورة من غاياتها في التحرر من الاستبداد، وفق مفهوم الصراع السياسي والحقوقي، وأنهت حالة الصراع السلمي لتمارس عنفاً مقابلاً لعنف النظام عبر أدواتها المسلحة من فصائل ايدلوجية، خلال حكمها ما سمي بالمناطق المحررة، وكذلك من خلال تعاونها أو صمتها على ممارسات فصائل متطرفة، كـ «النصرة» و «جيش خالد»، التي وجهت ادواتها المسلحة باتجاهين: نحو المواطنين السلميين من حاضنة الثورة، ونحو الجيش الحر، ما نتج عنه ذوبان فصائل «الحر» لمصلحة الفصائل «المؤدلجة»، وابتعاد الحاضنة الشعبية من الثورة، المفترض أنها الأداة التي ستمكنها من وضع خاتمة لنظام الاستبداد وممارساته القمعية.
ولا يمكن فهم ظاهرة تمدد وتحول تلك الجماعات من دينية ومسلحة إلى منظومات خدمية وخاصة في مناطق الشمال وتوسعها، باتجاه التعليم والخدمات البلدية مثلاً، إلا من باب التنافس على موقع مجتمعي سلطوي ايديولوجي، يروج لأفكار مبسطة تبدأ من المسلمات في الواقع السوري، لتعبر من خلالها إلى التصرف بشؤون السوريين، تحت ذريعة الحكم باسم الشريعة، وبالتالي تمرير ما تريده من تبرير أعمالها غير المتّسقة مع مطالب الثورة في الحريات العامة والخاصة، لتكون بديلاً مقابلاً لايديولوجيا النظام القائمة على الاستبداد والهيمنة على الفكر، بدءاً من محاولاتهم السيطرة على ما يمكن تسميته دستور سورية الذي يعد داخل أروقة دول احتلال سورية، بما يخدم تمزيق اجماعات السوريين على وحدة سوريا شعبا وأرضاً، ومن خلال هيمنتهم السلطوية على سكان المناطق «المحررة»، والتغيير الايدلوجي الذي احدثوه بمساعدة غير مباشرة من النظام، وهو يتشابه مع التغيير الديمغرافي الذي فرضه النظام في مناطقه لضمانة مجتمع «متجانس»، وفق تعبير رئيس النظام، واعتبار هذا التجانس غاية الصراع في الثورة، الذي سعى إليه كل من الطرفين النظام والمجموعات الدينية.
وضمن حالة الاصطفافات على جانبي المتمكنين من السيطرة على الأرض بالقوة، بسبب امتلاكهما السلاح والدعم الدولي، سواء النظام المدعوم من إيران وروسيا، أو المحسوبين على الطرف المقابل المدعومين من تركيا، فخيارات السوريين انحصرت اليوم بين نظام مستبد، طوع «اجهزته الدينية» لتكون أداة قمعية لمصلحة أهدافه السلطوية، أو بين طرف مقابل له يملك الصفات ذاتها، وفي أحسن الأحوال ما يشبهها، ولكن تحت ذرائع مختلفة، فبينما يسميها النظام «أي الذرائع» قانون الدولة، تسميها تلك المجموعات حكم الشريعة، في استخدامات غير حقيقية، وغير مرتبطة بما تطالب به مجموع إرادات من انتفض بوجه استبداد النظام وعنفه.
على ذلك، يمكن فهم حالة الانقسام المجتمعي التي أحدثتها المنظومات الدينية الاستخباراتية، في الضفتين المتصارعتين على السلطة، (النظام كطرف، والجماعات العديدة كطرف مقابل) ضمن المهيئات المناخية لتقسيم سورية، على أساس مذهبي وطائفي ولاحقاً جغرافي، وهو ما تسعى إليه الأطراف ويظهر بوجه جلي في أحداث السويداء التي بقيت طرفاً بعيداً من كل المعارك الدائرة خلال السنوات السبعة الماضية، واستعصت عليهم لتكون طرفاً في دخول الحرب سواء طائفياً أو عسكرياً، ما جعلها اليوم ضمن أولويات النظام والمجموعات المتطرفة لتكون ساحة معركة تنبش في الجزر الطائفي لإثارة حرب لا تخمد رحاها في القريب العاجل، ويصعب استدراك نتائجها ما لم تتخذ الجهات المحلية داخل السويداء موقفاً حاسما، تحبط من خلاله خطة استدراجها إلى قائمة المتناحرين مذهبياً.
إن تعاطي النظام اليوم مع مسألة التجديد في الخطاب الديني، «وفق المرتكزات الفكرية للسيد الرئيس بشار الأسد» (بحسب وزير الأوقاف السوري)، على رغم ارتهان ذلك الخطاب أساساً لأجهزته الأمنية، في التوقيت الذي يدخل فيه أيضاً «المجلس الإسلامي» كطرف معارض، ويحدد نوع المعصية التي يرتكبها المشاركون في لجنة الدستور، التي نسقتها دول شركاء آستانة (روسيا، إيران، تركيا)، بأنها «تندرج في ما نهى الله عنه من التعاون على الإثم والعدوان»، وفق بيان المجلس الصادر في 13 تموز (يوليو)، يزيل اللبس عن أن السوريين يقعون اليوم تحت وطأة خطابات دينية مسيسة حسب وجهة السلاح الأقوى، في محاولة لإزاحة الثورة من مفهومها السياسي، إلى حالة الحرب المذهبية، التي تذهب بالدولة الوطنية التي تقبل الجميع بكل مذاهبهم وانتماءاتهم القومية، إلى ما قبل وجودها في تاريخ البشرية.
في المحصلة، فنحن كسوريين لا نزال بعيدين من صناعة منظومة أخلاقية لا تديرها أجهزة الاستخبارات المحلية والدولية، وما تتعرض له الشخصيات الوطنية غير المرتهنة لأي من اجندات المنظومات القيمية المخابراتية من حرب دعائية، هو انعكاس لمدى هيمنة هذه المجموعات، وابتعاد مريديها من فهم أسباب الثورة، التي يقع في مقدمها البحث خارج دائرة السلطة الأمنية عن منظومة قيمية، تواجه الفساد والاستبداد القائم، والمتشكل الآن بقوة السلاح المرتهن والموظف ضد السوريين كحالة وطنية.
* كاتبة سورية | |
|