| | التاريخ: آب ٥, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | الابتعاد من النفوذ بين أميركا وروسيا - مايكل يونغ | قد يُقال الكثير عن دول الشرق الأوسط، إلا أنها تتمتع بقدرة جيدة على استشعار تبدّلٍ في علاقات القوة. فقد تمكّنت جميعها من دون استثناء من التكيّف مع الاتجاه الانحداري للنوايا الأميركية تجاه منطقتها.
عندما تسلّم الرئيس السابق باراك أوباما منصبه عام 2009، انتهج استراتيجية «التوجّه نحو آسيا». وعنى ذلك قبل كل شيء «تحويل التركيز بعيداً من منطقة الشرق الأوسط» التي كان يُنظَر إليها آنذاك، كما الآن، بأنها تزهق أرواح عدد كبير من الأميركيين، وتحصد مبالغ طائلة، مقابل عائدات محدودة. وعلى رغم الجهود المستمرة التي يبذلها دونالد ترامب للتمايز عن سلفه، يبدو أنه حذا حذوه إلى حد كبير، ساعياً إلى خفض الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وذلك خلافاً لرغبات المسؤولين في إدارته في معظم الأحيان.
يشكّل تبني ترامب الذي ينتمي إلى التيار المحافظ ويمقت أوباما، مزاج هذا الأخير حيال الشرق الأوسط، مؤشّراً جيداً إلى وجود إجماع حول هذه المسألة في أميركا. وفي هذا الصدد، كتب لي سميث في مجلة «تابلت» في نيسان (أبريل) الماضي ما مفاده: «من الواضح أننا تسبّبنا في ما يكفي من الأضرار للمنطقة والجنود الأميركيين الشباب ومجتمعنا، عبر خوض حروب غير ضرورية في الشرق الأوسط. حان الوقت لكي تعود أميركا أدراجها». ولا بد من أن هذا الكلام حظي باستحسان أنصار أوباما وترامب على حدٍّ سواء.
إنما ثمة أمرٌ لافت في هذه الاندفاعة. فالبلدان لا تقرّر عادةً الخروج من المناطق حيث يكتسب نفوذها أهمية قصوى. وربما علينا اللجوء إلى علم النفس والسياسة في آن للحصول على تفسير مقنع، مفاده ربما أن هناك شعوراً بخيبة الأمل والاستياء بالدرجة عينها لأن شعوب الشرق الأوسط لم تتجاوب مع حجم التضحية الأميركية. فقد قال ترامب بحزن في معرض وصفه المنطقة في نيسان الماضي: «إنه مكان مضطرب»، بعدما أكّد أن «الدماء أو الموارد الأميركية، مهما بلغ حجمها، لا يمكن أن تولّد سلاماً وأمناً دائمَين في الشرق الأوسط».
لكن ذلك يقود إلى طرح سؤال أكثر صلةً بالموضوع عن أسلوب الولايات المتحدة في ممارسة النفوذ، وعن الإرشادات المتّبعة في هذا الصدد. فعندما تسلّم أوباما سدة الرئاسة، قدّم نفسه على أنه واقعي في السياسة، على رغم أنه بدا، من خلال ممارساته في الشرق الأوسط، بعيداً كل البعد من الواقعية السياسية. وقد سعى ترامب أيضاً، وبقدر ما وضع من تفكير في السياسة الخارجية، إلى التشديد على أن مقاربته للرئاسة شبيهة بالمعاملات التجارية، أي أنه قادر على إبرام صفقات بعيداً من القيود الأخلاقية أو المستندة إلى القيم. ويتشارك الرجلان نظرة مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على بناء سياساتها في شكل أساسي على تحقيق الديموقراطية وحقوق الإنسان، حتى لو كانت تحبّذ مثل هذه الأهداف.
لقد شرح هانز مورغنتاو، الخبير في العلوم السياسية، مفهوم الواقعية في السياسة الخارجية بعشر كلمات فقط في كتابه الفذّ «السياسة بين الأمم» حيث كتب: «السياسة الدولية، شأنها شأن جميع السياسات، هي صراعٌ على النفوذ». إذا كان مورغنتاو على حقّ، فهذا يعني أن الرئيسَين الوحيدَين اللذين أعربا، منذ عام 2009، عن التزامهما بتعزيز النفوذ الأميركي في العالم هما أيضاً الوحيدان اللذان تخلّيا عن القدر الأكبر من النفوذ في الشرق الأوسط، على حساب أميركا.
ليس مفاجئاً أن البلدان «الواقعية» بكل ما للكلمة من معنى هي التي كسبت. وإحداها روسيا التي لم تُظهر أياً من التردّد الذي بدا على الولايات المتحدة، فعمدت إلى توسيع شبكة علاقاتها في المنطقة ووضعت نفسها في صلب المشاغل الكثيرة التي يتخبط فيها الشرق الأوسط: من الحرب السورية، والخلاف الأميركي - الإيراني المرتبط بالملف النووي، والتشنجات الإسرائيلية -الإيرانية، والتفاعلات التركية مع دمشق، وسواها. وعندما نشر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته في سورية في 2015، عارضت واشنطن هذه الخطوة، وقال أوباما في تصريح علني: «إن أي مسعى تقوم به روسيا وإيران لدعم الرئيس السوري بشار الأسد وإحلال السلام في صفوف السكان سيغرقهما في المستنقع السوري، ولن يتكلّل بالنجاح».
لسوء الحظ، نجح هذا المسعى، ولم تتجنّب روسيا الغرق في المستنقع وحسب، بل استخدمت سورية بمثابة نقطة انطلاق لاكتساب أهمية في المنطقة، فيما كان نفوذ أميركا ينحسر أكثر فأكثر. ومما لا شك فيه أن حلفاء واشنطن استدركوا الأمر، ففتح بعض العرب قنوات ودّية مع موسكو، وعقدَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو اجتماعات منتظمة مع بوتين حول جنوب سورية، وتحدّث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مراراً مع الروس عن التطورات في شمال سورية.
قد يكون الأميركيون، في معظمهم، غير مبالين بما يجري، إذ نتخيّلهم يتنحنحون قائلين: إذا كان الروس يريدون الشرق الأوسط، فمبروكٌ عليهم. غير أن بوتين، وعلى رغم الشراسة الشديدة لقواته المسلحة في سورية، أظهر قدراً أكبر بكثير من الحنكة في تحويل تدخّله في المنطقة إلى نفوذ سياسي حقيقي. ولعل ذلك يُعزى إلى أن الروس لطالما كانت لديهم فكرةٌ أوضح من الأميركيين عما يريدون تحقيقه في البلاد وخارجها، وتجنّبوا إسداء نصائح مجانية وغير مرغوب فيها إلى الآخرين. إذاً، في الجوهر، ربما فَهِم الروس ببساطة معنى النفوذ في شكل أفضل.
كتب جورج كينان، العرّاب الفكري لاستراتيجية احتواء الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، في كتابه الذي يحمل عنوان: «الديبلوماسية الأميركية 1900 - 1950»، عن ميل المسؤولين الأميركيين، في حديثهم عن الشؤون الخارجية، إلى إطلاق تصريحات رنّانة تنسجم عادةً مع المبادئ الأميركية، ولا تملك حظوظاً كبيرة بالدخول إلى حيّز التنفيذ، وذلك حول مسائل لا يكترثون لها كثيراً في معظم الأحيان. لقد عكسَ ذلك ما وصفه كينان بـ «غطرسة التفكير الأميركي حول الشؤون الخارجية». وقد أنتجت المسألة السورية قائمة طويلة من التصريحات الأميركية المتعجرفة عن حتمية سقوط الأسد والإخفاق المؤكّد للجهود الروسية في نزاعٍ بدا الأميركيون، في معظمهم، غير مبالين به كثيراً. لكن ذلك لم يسلّط الضوء سوى على العقم المتزايد للموقف الأميركي في الشرق الأوسط وضياع بوصلته.
اليوم، يسود ربما شعورٌ بالارتياح في الولايات المتحدة لأنها تتخلص من عبء الشرق الأوسط، غير أن الغريب في النفوذ أنه ليس مسألة اختيار: فالسعي خلفه مصيرٌ محتوم في العلاقات بين الدول، من هنا انبثق مصطلح «الواقعية السياسية». وعندما يتجاهل المسؤولون الأميركيون هذا الأمر، يتجاهلون جزءاً أساسياً من معنى الدولة، لا سيما أنهم لا يرون أن ما يخسرونه في الشرق الأوسط قد يكون أيضاً مكسباً لخصومهم. فحتى الأماكن المضطربة قد تستحق خوض المعارك من أجلها.
نشر هذا المقال بالتعاون مع موقع «ديوان» التابع لمركز كارنيغي للشرق الأوسط | |
|