التاريخ: آب ٢, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
مساهمة في النقاش السوري حول الدستور - ماجد كيالي
بصرف النظر عن التحولات في الصراع السوري، أو في الصراع الدولي والإقليمي على سورية، ثمة محاولات لاختصار، أو لتوجيه الدفة نحو عملية صوغ دستور لسورية، وهو واحد من ضمن ما اعتبره المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا أربع «سلال»، أو عمليات، يفترض بالسوريين الوصول إلى حل لها، من أجل التغيير السياسي، مع إنهاء الإرهاب، والحكومة والانتخابات.

على ذلك فإن هذه المساهمة تحاول المشاركة في النقاش السوري الدائر عن الدستور، من دون صلة بالدعوات الدولية لذلك، وبمعزل عن الخلافات أو الادعاءات السياسية لهذا الطرف أو ذاك، على اعتبار أن صوغ الدستور يدخل في صميم الصراع السياسي على سورية المستقبل، وفي صميم بناء الدولة المقبلة، إضافة إلى أن أهميته تنبع، أيضاً، من ضرورة توصل السوريين إلى إجماعات وطنية جديدة، توحدهم، وتسهم في صياغة مفهومهم لذاتهم، كمواطنين، ولعلاقات المواطنة في ما بينهم كمجتمع، ولشكل علاقتهم بالدولة، وشكل الدولة ذاتها.

بداية تؤكد النقاشات السائدة، أو التي اختبرناها، منذ اندلاع الحراكات الشعبية ضد النظام، بأن الإدراكات السياسية السورية السائدة ما زالت تفتقد، في أغلب الأحوال، مفهوم المواطنة، أو تحديد المكانة الحقوقية والقانونية للمواطن في الدستور، مع تضمين النص الدستوري بنوداً تحصنّ تلك المكانة، وتمكّن كل مواطن من حقوقه، علماً أنه لا يمكن الحديث عن نظام ديموقراطي من دون ذلك، لأن الديموقراطية تتأسس، أصلاً، على المواطن الفرد، الحر، المتساوي مع غيره، من دون أي تمييز، لأن ذلك وحده هو ما يجعل من السوريين شعباً، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الأولية والإثنية والطائفية، وهو ما يجعلهم يدركون ذواتهم الفردية كجزء من مجتمع، أو كجزء من شعب، مع حقوق وواجبات، وأهمها الحرية والمشاركة السياسية والمساواة وتكافؤ الفرص، والاستقلالية عن الدولة، وضمان قيام المجتمع المدني، أي إن الأقانيم الثلاثة لتمكين المواطن، هي الحرية، والمساواة، والاستقلالية (أي حصانة الحيز المستقل للفرد)؛ هذا أولاً.

ثانياً، ما زالت الإدراكات السياسية للنظام الديموقراطي مشوّشة عندنا، إذ إن الحديث عن الديموقراطية وحدها، في الدستور، لا يكفي، بمعنى أنه ينبغي أن يصحب ذلك التأكيد على ركائز أخرى، حيث الديموقراطية لا يمكن أن تتأسّس من دون إقامة دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، والفصل بين السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وضمان الحريات والحقوق للأفراد في نص دستوري (كما قدمنا). أي أن الحديث عن الديموقراطية من دون الأسس المذكورة، يضعنا أمام ديموقراطية ناقصة، أو ديموقراطية انتخابات، أو ديموقراطية «توافقية»، بين طوائف وجماعات إثنية أو دينية، ما يلغي فكرة أو مكانة المواطنة، أو يهمش المواطن الفرد ويسلبه حريته واستقلاليته. لذا فإن شروط الديموقراطية، هي: أولاً، دولة مؤسسات وقانون. ثانياً، دولة مواطنين أحرار ومتساوين، إذ لا توجد ديموقراطية من دون حرية للمواطنين، ومن دون مساواة في الحقوق. ثالثاً، الفصل بين السلطات الثلاث. رابعاً، القبول بمبدأ التداول السلمي للسلطة؛ وهذا ما يجب النص عليه في الدستور في الأوجه التشريعية والتنفيذية.

ثالثاً، ثمة فكرة ظلّت محمّلة بالالتباسات وهي المتعلقة بالحديث عن سورية كدولة لا مركزية، على ما درج في بيانات المعارضة السائدة، إذ لا شيء اسمه دولة لا مركزية، بل إن اللامركزية تتضمن المركزية أساساً، والقائلين فيها يوحون بالخشية على سورية من «التقسيم». وفي الحقيقة فإن ما يمنع التقسيم ليس نصاً معيّناً، سواء كان يتضمن اللامركزية أو المركزية، لأن ثمة دولاً كبرى قسّمت من دون أن تكون فيديرالية، وثمة دول ذات نظام فيديرالي، هي من أقوى وأغنى وأكبر دول العالم، من دون أن تخشى من شبح التقسيم. والفكرة هنا، أولاً، أن التقسيم يحصل أساساً وقبلاً في الشعب، أو في المجتمع، لا في الجغرافيا. ثانياً، إن شعور فئة من شعب معين بأنها مغبونة وأنها غريبة في دولتها هو الذي يفتح على خطر التقسيم. ثالثاً، إن درء التقسيم يتطلب المساواة بين المواطنين، والمساواة في توزيع الموارد، في نظام يتأسس على الحرية والمواطنة المتساوية والديموقراطية، وهذا أكثر ما يمكن تمثله في النظام الفيديرالي، بحيث تصبح الفيديرالية، على أساس جغرافي، عامل إثراء وبناء وتضافر لا عامل إفقار وهدم وتفكك.

على ذلك فإن النظام الفيديرالي ليس هو مصدر التقسيم أو الذي يفتح الأبواب على التقسيم، وإنما نظام الاستبداد، واستلاب الحقوق، مع معرفتنا أن الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا والصين وروسيا ودول كثيرة تأخذ بالنظام الفيديرالي، حيث تتوزع السلطات، فالسلطات السيادية، أي الخارجية والدفاع والمالية، مثلاً، تتبع للمركز، في حين أن السلطات المحلية تهتم بالأمن الداخلي والتعليم والصحة الخ. ثم إن النظام الفيديرالي هو الذي يحول دون إعادة إنتاج الاستبداد، في حين أن النظام المركزي يسهل ذلك، كما إن النظام الفيديرالي يتيح توزيعاً عادلاً للموارد، على عكس النظام المركزي الذي يجعل العاصمة تستأثر بالموارد، وأخيراً فإن الدولة الفيديرالية لا تتأسس لاعتبارات إثنية أو طائفية، وإنما هي تتأسس وفقاً لاعتبارات جغرافية، وهذا ما يفترض الانتباه إليه والتركيز عليه، للتخفّف من الخشية من فكرة الفيديرالية، ولوضع حد للمداورة عليها بفكرة اللامركزية التي لا تعني شيئاً.

رابعاً، الفكرة الأخيرة التي يمكن طرحها هنا، وأعتقد أنها غاية في الأهمية في الصراع السوري المعقد، وعلى ضوء التجربة الماضية، وهي أن الحديث عن المواطنة والنظام الديموقراطي والفيديرالية يتطلب أيضاً الحديث عن نظام سياسي برلماني، للقطع مع النظام الرئاسي، الذي قد يعيد إنتاج نظام الاستبداد، وربما يمكن أخذ التجربة الفرنسية هنا، حيث ثمة نظام مزدوج رئاسي وبرلماني، مع توزيع الصلاحيات بين الجهتين. لذا من المهم الخروج من دوامة الصراع السياسي والتفاوضي على مكانة الرئيس، على نحو ما شهدنا في تجربة المفاوضات، نحو النص في أي دستور جديد على نظام برلماني، أو نظام مزدوج، لتجاوز هذه العقبة نهائياً.

ثمة أهمية كبيرة لتفاهم السوريين حول هذه القضايا المركزية أو المحورية، لبناء الدولة وبناء النظام السياسي وبناء المجتمع في سورية، لأن تلك القضايا هي التي تضمن التعايش مع التنوع والتعددية وتقبل الآخر، والاحتكام لقيم المساواة والعدالة والديموقراطية لحل أية قضايا خلافية، ما يجعل من الاختلاف والتعددية عاملي إثراء وحيوية لسورية المستقبل.

بيد أنه يفترض الحديث هنا، أخيراً، عن أنه لا يمكن البحث حقاً في دستور جديد لسورية، من دون التوافق على إحداث تغيير سياسي في مبنى السلطة، لأن هذا هو مفتاح استعادة الاستقرار، واستعادة السوريين لبلدهم، واستعادتهم لاعتبارهم شعباً.
اخر تحديث في 19 يوليو 2018 / 19:41