| | التاريخ: تموز ٦, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | القوى العالمية الناشئة تصون هوياتها الثقافية برفض الديموقراطية الليبرالية - موريس غوديلييه | نشهد اليوم ختام أربعة قرون من السيطرة الغربية. فالولايات المتحدة الأميركية لم تعد الدولة العظمى العالمية التي كانت قبل عملية البرجين التوأمين، وبعد إخفاقها في أفغانستان والعراق وسورية. فثمة بلدان كبيرة صناعية وعلمية، مثل الهند والصين، تضطلع بدور منافس على الصعيد العالمي. وهذه القوى الصاعدة في إطار النظام الرأسمالي ترهص بدور مهيمن في المستقبل. والأمر الجديد هو أن هذه البلدان، حال انخراطها في الاقتصاد الرأسمالي، تعلن إرادتها السعي في تحديثها من غير تقمص الغرب والاحتذاء على مثاله. وتملك هذه البلدان اقتصاداً قوياً، وعناصر بحوث علمية حديثة وجامعات من مستوى عال، ولكنها لا ترضى أن تربطها بالغرب علاقة التحاق تملي عليها إنكار ثقافتها. وهي ترى أن وقت إيجاب هويتها قد حان، وحان معه جهر رفضها مادية الغرب واتخاذه الفرد معياراً. وتغرف هذه البلدان، في سبيل تشييد مستقبل ركنه هويتها، من معين تاريخها وماضي تقاليدها ودياناتها ومناحي حياتها التي تهددتها القيم الغربية بالخطر وهاجمتها بل ودمرتها.
وأنا أفكر أولاً بسيرورات التبلور الثقافي المشهودة منذ بضعة أعوام في الصين والهند وتركيا. فغداة نصف قرن على وفاة ماو (تسي تونغ)، وكان هذا يلقي على كونفوشيوس بالتبعة عن ركود الصين، تنبعث الكونفوشيوسية في الصين. ويلاحظ الأمر نفسه في الهند. وكان نهرو، غداة الاستقلال في 1947، أقر فصل الدولة عن الدين مستلهماً الدستور البريطاني، واليوم يعلن ناريندرا مودي، رئيس الوزراء، أن على الهنديين جميعاً أن يكونوا هندوسيين، وأن الهند هي مصدر أعلى أشكال الروحانية الانسانية وعليها الانتصاب مثالاً ونداً للغرب المادي. ولننظر إلى تركيا: يحاول أردوغان تقويض «الحداثة» التي شيدها أتاتورك في عشرينات القرن العشرين، فألغى الخلافة، وكتب التركية بالألفباء اللاتينية، وفصل الدولة عن الدين. وتخط القوى الاقتصادية والعسكرية هذه خطوطاً حمراً تدعو الغرب إلى احترامها والوقوف عندها.
فصين شي جينبينغ الشيوعية، «خطها» الأحمر هو الديموقراطية الليبرالية. والصين هذه، تزاول رأسمالية هجومية وفاعلة، وتنحي جانباً الديموقراطية التعددية وحرية الصحافة واستقلال النقابات وحقوق الإنسان وفصل حرية التعبير عن السلطة (...). والإسلام هو خط أحمر في بلدان أخرى. ومثال التحديث من غير تقمص الغرب «هو حقبة مايجي اليابانية (1867-1912)، والمثال الذي تقتفيه البلدان الناشئة اليوم. ورد اليابان كان نموذجياً. فالبلد عزم على أن يكون القوة الأولى في آسيا، وعلى حفظ ميراثه الثقافي معاً. وشعار حقبة مايجي كان «وانت يوزاي»، أي «اقتباس علوم الغرب وتقنياته من غير خسارة روح اليابان». وأملت النخب اليابانية على الشوغون برنامجاً واسعاً من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الكفيلة بالتصدي للغرب: وطوال 14 شهراً، سافر نصف وزراء حكومة مايجي إلى أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا سعياً في إرساء أركان اليابان الحديث. وصحبت التحديث إرادة ثقافية قوية: أصبحت الشنتاوية دين الدولة وجسد الإمبراطور السلطان السياسي- الديني. وإلى اليوم يرفض اليابان التحديث الغربي في حقلين يرى أنهما بمنزلة القلب من هويته: الدين، ملتقى الشنتاوية والبوذية، والسياسة التي يغلب عليها احترام الإمبراطور أو تقديسه.
وليس ثمة بين الدول الصاعدة والمتماسكة بهويتها الثقافية دولة واحدة ترغب في قطع التبادل التجاري مع الغرب، أو التخلي عن اقتباس التكنولوجيا منه. وهذا مستحيل. والزعم أن في وسع بلد من البلدان الرجوع عن العولمة لا طائل منه. والنظام الرأسمالي عالمي، وهذا طور لا عودة عنه. وتشابك البلدان، موارد وتكنولوجيا، لا فكاك منه. (...) وتوسع الرأسمالية لتشمل الصين والبلدان المستعمرة سابقاً، بدلاً من أن يؤدي إلى زرع الديموقراطية الليبرالية، أثمر خلاف المتوقع: شككت البلدان الناشئة في معظم القيم الغربية، ورفضت مبدأ التمثيل الديموقراطي. وأرادت هذه القوى الاقتصادية والعلمية الجديدة رفع لواء هويتها الخاصة.
ومصدر مطاليب الهوية ضغينة حادة على الغرب، هي ثمرة الاستعمار. فسيطرة الغرب على شطر كبير من بقية العالم بدأت في القرن السادس عشر، مع اكتشاف الإسبان والبرتغاليين أميركا، وانتهت في 1936، مع استعمار إيطاليا أثيوبيا. ومن القرن السادس عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر، كان التوسع الاستعماري مفرطاً في العنف، ونجم عنه تدمير امبراطوريتي الأزتيك والإينكا (جنوب أميركا)، ومصادرة الأهالي المحليين على أراضيهم وتملك المعمرين الأوروبيين هذه الأرض، وحبس هنود أميركا الشمالية في المعازل، وتنصير السكان قسراً، واجتثاث الديانات التقليدية، ونهب الممتلكات، والعمل سخرة في الزراعة. (...)
فبين ليلة وضحاها، خسرت دولة أو قبيلة سيادتها على إقليمها أو ديرتها، إلى خسارتها مواردها وسكانها. والاستعمار لم يقتصر على إخضاع الشعوب والدول عنوة وبالقوة، فتعدى هذا إلى اجتثاث أشكال الحكم والإرادة القائمة قبل قدوم الأوروبيين، وقسر الأهالي على طاعة هؤلاء وخدمتهم. والاستعمار زعم «تمدين» الشعوب المستعمرة، على قول جول فيري، وتعريفهم إلى الديانة التي فيها خلاص أرواحهم. وبثت مزاعم الاستعمار في نفوس أصحابه الغطرسة، وازدراء طرائق التفكير والعمل المحلية. وفي هذا الضوء، تُعقل أشكال اللفظ والمقاومة والثورات المقموعة. ويُعقل على الأخص ألم الشعوب المستعمَرة، جراء خسارتها هويتها الناشئة عن علاقتها بماضيها وتقاليدها المحتقرة أو الممسوخة أو المجتثة بالقوة.
* مدير المركز الوطني للبحوث العلمية، ومدير متحف رصيف برانلي، سابقاً، عن «لو موند» الفرنسية، 16/6/2018، إعداد منال نحاس
اخر تحديث في 26 يونيو 2018 /
| |
|