| | التاريخ: تموز ٣, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | نَفْسان - يوري أفنيري | "طالما في القلب تكمن نفْسٌ يهودية تتوق..." بهذه العبارة يُستهَل النشيد الوطني الإسرائيلي.
في الواقع، يرد في النشيد الأصلي باللغة العبرية عبارة "نفْسُ يهوديٍّ" (the soul of a Jew بدلاً من "نفْس يهودية" a Jewish soul الواردة في الترجمة الإنكليزية)، إنما غالب الظن أن المترجِم أصاب في الترجمة. فالمقصود هو النفس اليهودية.
لكن هل هناك نفْسٌ يهودية؟ هل تختلف عن نفوس الشعوب الأخرى؟ وفي هذه الحالة، ما هو الفارق؟
بصراحة، لا أعرف ما هي النفْس. لكن لنفترض أن هناك شيئاً اسمه بسيكولوجيا جماعية، أي النفْس العامة لجميع الرجال والنساء الذين تتشكّل منهم جماعة معينة - ولكل منهم بسيكولوجيا خاصة به/ بها. فما هي عوامل الاختلاف بينها وبين النفْس العامة لدى الشعوب الأخرى؟
عند النظر إلى الشعب الإسرائيلي في الزمن الحاضر، قد يقع الغريب في حيرة من أمره. أولاً، أكثر من خُمس الإسرائيليين ليسوا يهوداً البتّة، بل ينتمون إلى الشعب الفلسطيني الذي يُفترَض أن لديه "نفْساً" مختلفة. عندما يتحدث الأشخاص عن الإسرائيليين، فهم يقصدون عموماً "الإسرائيليين اليهود".
بالمناسبة، كان يجب أن يُقنع ذلك الإسرائيليين، قبل وقت طويل، بتغيير النشيد الوطني ورموز أخرى من رموز الدولة، من أجل منح الأقلية شعوراً بالانتماء. هذا ما فعله الكنديون. فعندما أدركوا أن المواطنين من أصل فرنسي هم عرضة للانفصال وتأسيس دولة خاصة بهم، غيّروا نشيدهم وعَلَمهم، ليمنحوا الأقلية الفرنسية شعوراً بالانتماء. ووفق حكمي على الأمور عن بعد، كانت عملية ناجحة. إنما الحظوظ ضئيلة بأن يتحقق ذلك هنا. حتى عند الحديث عن اليهود الإسرائيليين حصراً، البسيكولوجيا (أو "نَفْسنا") الوطنية مثيرة للحيرة. فهي تشتمل على تناقضات داخلية عميقة يتعذّر أن تتقاطع في ما بينها.
من جهة، يشعر معظم الإسرائيليين (اليهود) باعتزاز شديد بقوة الدولة التي "بنوها من لا شيء". قبل 150 عاماً، بالكاد كان هناك يهود في أرض فلسطين، وكانوا عاجزين تماماً. أما اليوم فإسرائيل هي الدولة الأقوى في المنطقة، إنها قوة نووية تتفوق في ميادين كثيرة من المسعى البشري - الميادين العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية، إلخ. لكن عند الاستماع إلى الكثير من الانفعالات الإسرائيلية الجيّاشة، ربما يتكوّن لدينا انطباع بأنه قد يتم محونا عن الخريطة في أي لحظة. بحسب هؤلاء، العالم مليء بأشخاص هدفهم الوحيد في الحياة هو تدميرنا. ولذلك علينا أن نكون مستعدين في أي لحظة للدفاع عن وجودنا.
كيف يلتقي هذان الموقفان المتناقضان؟ لا مشكلة. يلتقيان جيداً.
أولاً، هناك الاعتقاد القديم بأن الله اختارنا من بين جميع الشعوب.
لماذا فعل الله ذلك؟
الله هو الأدرى. هو ليس مضطراً إلى أن يقدّم تفسيرات. الأمر معقّد بعض الشيء. أولاً، اليهود اخترعوا الله. المصريون وشعوب بلاد ما بين النهرين لديهم أيضاً ادّعاءاتهم في هذا الصدد، لكن اليهود هم الأدرى.
(قيل إن عدداً كبيراً من اليهود لا يؤمن بالله، لكنهم يؤمنون بأن الله اختار اليهود).
يتعلم اليهود، منذ نعومة أظفارهم، أنهم شعب الله المختار. وفي اللاوعي، تبقى هذه المعلومة متجذّرة في "نفْسهم" طوال حياتهم، على الرغم من أن كثراً بينهم يصبحون ملحدين تماماً. صحيح أن شعوباً كثيرة على وجه الأرض تعتقد أنها أفضل من الشعوب الأخرى. لكنها لا تمتلك كتاباً مقدّساً لإثبات ذلك. أنا على يقين من أن يهوداً كثراً لا يدركون حتى أنهم يؤمنون بهذا الأمر، أو أسباب إيمانهم به. وحدها النفْس اليهودية تعلم ذلك. نحن مميّزون.
هذا ما تعكسه اللغة. هناك اليهود وهناك الآخرون. الكلمة العبرية التي تشير إلى جميع الآخرين هي goyim (الأغيار). في اللغة العبرية القديمة، يعني مصطلح goyim الشعوب في شكل عام، بما في ذلك الشعب الإسرائيلي القديم. لكن على مر القرون، ظهر تعريفٌ جديد: هناك اليهود وهناك جميع الباقين، أي غير اليهود، الأغيار (Goyim).
وفقاً للأسطورة، كان اليهود شعباً عادياً يعيش في أرضه، أرض إسرائيل، عندما غزاهم الرومان الأشرار وشتّتوهم في مختلف أصقاع الأرض. في الواقع، كانت الديانة اليهودية ديانة تبشيرية، وقد انتشرت بسرعة في مختلف أنحاء الأمبراطورية. كان اليهود في فلسطين أقلية بين أتباع يهوه عندما طرد الرومان أعداداً كبيرة منهم (إنما ليس جميعهم) من البلاد.
سرعان ما وجدوا أنفسهم في تنافس مع الديانة المسيحية، أحد فروع الديانة اليهودية، التي بدأت أيضاً تستقطب أعداداً كبيرة من الأتباع. بُنيت الديانة المسيحية حول قصة إنسانية عظيمة، قصة يسوع، وامتلكت تالياً قدرة أكبر على هداية جماهير العبيد والعمّال في مختلف أرجاء الأمبراطورية.
يتضمّن العهد الجديد أيضاً رواية الصلب – في مشهدية لا تُنتسى عن "اليهود" الذين يطالبون بإعدام يسوع الوديع.
أشكّ في أن يغيب هذا المشهد عن العقل الباطن لكل شخص سمِع هذه الحكاية في طفولته. والنتيجة هي شكلٌ من أشكال العداء للسامية، في الوعي أو اللاوعي.
هذا لم يكن السبب الوحيد لكره اليهود. فواقع انتشارهم في مختلف أنحاء العالم كان ميزة كبيرة إنما أيضاً لعنة كبيرة.
كان بإمكان تاجر يهودي في هامبرغ أن يتواصل مع تاجر يهودي في تسالونيكي كان هو الآخر يتواصل بدوره مع تاجر يهودي في القاهرة. قلة من المسيحيين كانت تتسنّى لهم مثل هذه الفرصة. غير أن المنافسة عرّضت اليهود لعدد لا يُحصى من المجازر المنظّمة. ففي بلد أوروبي تلو الآخر، تعرّضوا للاعتداءات والقتل والاغتصاب، وفي النهاية الطرد. ولّد ذلك كله اتجاهَين متناقضَين في النفْس اليهودية: الاقتناع بأن اليهود مميّزون ومتفوّقون، والاقتناع بأنهم معرَّضون دائماً وأبداً لخطر الاضطهاد والإبادة.
في غضون ذلك، ظهر فرعٌ آخر من فروع الديانة اليهودية – الإسلام – واستولى على جزء كبير من العالم. في غياب روايةٍ كراوية يسوع، لم يكن الإسلام معادياً لليهود. كانت هناك خلافات بين محمد وقبائل يهودية في الصحراء العربية، غير أن المسلمين واليهود عملوا معاً عن كثب لفترات زمنية طويلة. كان موسى بن ميمون، وهو من أعظم المفكّرين اليهود، الطبيب الشخصي لصلاح الدين، أحد أعظم الأبطال المسلمين. كان هذا قبل ظهور الصهيونية.
لم يتبدّل اليهود. في حين عمدت دول أوروبية أخرى إلى تغيير أشكال البنية الاجتماعية لديها - القبائل، الممالك المتعددة القبائل، الأمبراطوريات، الدول الحديثة، إلخ. - حافظ اليهود على شتاتهم الإثني- الديني. وهذا جعلهم مختلفين، ما أسفر عن ارتكاب جرائم منظّمة بحقهم، وأدّى في نهاية المطاف إلى وقوع المحرقة.
كانت الصهيونية محاولة لتحويل اليهود إلى أمة أوروبية حديثة. تعرّضَ الصهاينة الأوائل للشتائم من الحاخامات المتشددين الذين استخدموا أقذع العبارات، لكن هؤلاء الصهاينة رفضوا الانجرار إلى حرب ثقافية. لقد خلقوا الوهم بأن الدين والأمة هما الشيء نفسه في الديانة اليهودية.
كان ثيودور هرتزل، مؤسّس الصهيونية الحديثة، استعمارياً أوروبياً إلى أقصى الحدود. حاول أن يكسب الدعم لمشروعه من قوة استعمارية أوروبية – أولاً الأمبراطور الألماني، ثم الإمبرياليين البريطانيين. قال الأمبراطور الألماني لمعاونيه: "إنها فكرة عظيمة، إنما لا يمكن تنفيذها مع اليهود". أما البريطانيون فأدركوا الإمكانات وأصدروا وعد بلفور. تأخّر العرب في فلسطين و"الشرق الأوسط" كثيراً في إدراك أن وجودهم مهدَّد. عندما بدأوا المقاومة، أنشأت الصهيونية قوات عسكرية حديثة سرعان ما تحوّلت الآلة العسكرية الأكثر فاعلية إلى حد كبير في المنطقة، والقوة النووية المحلية الوحيدة.
هذا ما نحن عليه الآن. قوة مهيمنة على مستوى المنطقة، وطفلٌ كثير البكاء على مستوى العالم، يحكم شعباً مستعمَراً مجرّداً من جميع حقوقه، فيما يتم إقناعنا بأن قوى ظلامية تسعى إلى إبادتنا في أي لحظة، ونعتبر أنفسنا شعباً مميّزاً جداً وضحية أزلية. يحدث هذا حقاً، ويحدث كله معاً.
عندما يجرؤ أحدهم على التلميح إلى أن العداء للسامية يضمحل في الغرب، فيما يتنامى عداء الإسلام، يُثير ذلك رد فعل يهودياً شديد الغضب. نحتاج إلى عداء السامية من أجل توازننا العقلي. لن يسرقه أحد منا. قبل نحو 80 عاماً، خطرت لمجموعات صغيرة من الشباب اليهود في فلسطين فكرة الفصل بين الجماعات: نحن اليهود في فلسطين أمّة جديدة، أما جميع الآخرين فيبقون يهوداً وحسب. هذا أشبه بالأميركيين والأستراليين الذين كانوا، في جزء كبير منهم، من أصل بريطاني، إنما لم يعودوا بريطانيين إلى حد ما.
أصبحنا جميعنا "سكّاناً أصليين". ولدى بلوغ سن الثامنة عشرة، غيّرنا أسماءنا اليهودية واستبدلناها بأسماء عبرية. (هكذا أبصر اسمي، يوري أفنيري، النور). بدأنا ننظر إلى أنفسنا بأننا أمة جديدة، مع "نَفْس" جديدة، مرتبطة بالتأكيد بالديانة اليهودية، إنما من ناحية تاريخية في شكل أساسي. لكن عندما انكشف الحجم الكامل للمحرقة، سقطت كل هذه الأفكار. جرى تمجيد الماضي اليهودي. اليوم، يُسمّي الإسرائيليون أنفسهم "الدولة اليهودية"، مع جميع السمات المترتبة عن الانتماء اليهودي، بما في ذلك النفْس المزدوجة. إذاً سيظل الإسرائيليون ينشدون في مباريات كرة القدم "طالما في القلب تكمن نفْسٌ يهودية...".
كاتب إسرائيلي ومؤسّس "كتلة السلام" (غوش شالوم).
ترجمة نسرين ناضر | |
|