التاريخ: كانون الأول ٢٧, ٢٠١٠
 
في إمكان التفاؤل بمستقبلنا

منى فياض

 

إن طرح مسألة الأحوال العامة المسيطرة على بلادنا من زاوية الخوف يجب أن يظل نسبياً. فعندما ننظر إلى الوضع على مستوى الزمن اليومي والآني المتسارع نجد أن الخوف يجد لنفسه مبررات جدية. لكن اتخاذ بعض المسافة والنظر إلى الأمور على المدى البعيد والمتسم بالبطء بحسب بروديل، يجعلنا نجد ما يهوّن من مخاوفنا.


يلعب المثقف، عبر تموضعه المفترض كوسيط فاعل بين المجتمع والسلطات القائمة فيه، دوراً محورياً في إحداث دينامية تساهم في عملية التغيير التي تسمح بنهوض هذا المجتمع الذي ينتمي إليه. هذا ما برهنت عليه تجارب الشعوب عموماً، وتجربة العرب أنفسهم في عصورهم الذهبية. لكن الملاحظ تعثّر هذه الدينامية راهناً، وعقم محاولات التغيير الراهنة؛ مع أن بدايات تشكل الدولة الوطنية في المجتمعات العربية كانت واعدة وشهدت بدايات القرن العشرين انطلاق مشاريع تنموية على قدر من الجدية بحيث أن الرهان حينها بين المراقبين ومتتبعي حركة المجتمعات وديناميتها، كان لمن يكون السبق في النمو، لليابان أم لمصر! فلننظر أين أصبحت اليابان اليوم وأين أصبحت مصر، وارثة حضارة الفراعنة العظيمة وكبرى الدول العربية حجماً وإمكانات مهدورة!


تشارك المثقفون والسياسيون في بدايات القرن العشرين في استنهاض الشعوب العربية، لكن سرعان ما اصطدمت العملية بالمشاريع الاستعمارية التي تجسدت في تقاسم تركة السلطنة العثمانية بين الدول الأوروبية التي توزعت "حماية" الدول الوطنية الناشئة في ظل هذا التقاسم؛ كما شكّل الاحتلال الصهيوني لفلسطين الضربة القاضية لمشاريع التنمية، الأمر الذي نتج منه وعي قومي غلب التوجهات الليبيرالية التي وجدت قبل احتلال فلسطين. استكمل هذا الاتجاه، البدايات الخجولة للاتجاه القومي منذ أواخر حقبة الحكم العثماني، وتمخض عن ذلك بروز قوى جديدة اعتمدت على سلطة العسكر الذين سرعان ما هيمنوا على السلطة في عدد من الدول العربية، وأرسوا الأنظمة الأمنية المتشددة ذات الصبغة العلمانية، مدعومين من النخبة المثقفة التي توهمت في عملية العسكرة القدرة على النهوض بالمجتمعات العربية من أجل استعادة فلسطين. من هنا كان إعجابهم بهتلر وحركته النازية.


باءت هذه المشاريع بالفشل الذريع، فلم تقدر لا على تحرير فلسطين ولا على القيام بعملية النهوض أو التنمية. نتج من ذلك يأس عميم أدّى إلى حصول ردّة دينية عند الشعوب العربية، ساهم في تعميمها بروز التيارات الإسلامية السلفية كرد فعل على هذا الفشل، التي تحوّلت سريعاً نحو التعصّب والعنف، الأمر الذي جعلها تجد في بن لادن بطلها ومثالها.


لذا اتسمت المساحة العامة في المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة بسيطرة معيار ثقافي جامد يعتمد فهماً وقراءة ضيّقين للنصوص الدينية، ما أغرق المجتمع بالممنوعات والتزمت والجمود. جعل هذا من الدين، العنصر المركزي المهيمن على الايديولوجيات السائدة التي اختزلته برؤية سلفية أحادية رأت في الثقافة الدنيوية المعتادة مجرد كفر. وحلّ محلّ الاسلام المنفتح والقابل بتعدد الثقافات، فهم وتأويل مجتزآن للشريعة التي تخنق الثقافة.


طغى التشظي على المساحات العامة والخاصة في ظل هيمنة هذه الإيديولوجيات الجامدة والشمولية، مما أدّى إلى تجزئتها؛ يتم الحرص في المساحة العامة على إظهار الهوية المسلمة، من العودة إلى العادات القديمة وارتداء الحجاب وإرخاء اللحية والامتناع عن الذهاب الى السينما، ويتحول ارتياد الجامع طقساً واجباً. أما في الخاص فتُستهلَك الثقافة الدنيوية المنوّعة بكثافة، فتشمل عند الشبيبة استخدام مختلف التكنولوجيات الحديثة، من سماع الموسيقى ومشاهدة الافلام والفضائيات إلى استكشاف عالم الانترنت الواسع، من مدوّنات إلى "غوغل" و"تويتر" و"فايس بوك" وغيرها، وغالبا باللغات الاجنبية (الاستعمارية!)، واستهلاك آخر صرعات الموضة العالمية ومستحضراتها عند النساء.  هذا النوع من السكيزوفرينيا قسّم الحياة الثقافية دائرتين، واحدة تمارس في السرّ والأخرى مهيمنة في العلن. جانب تكنولوجي مقبول مع حجاب ديني يغطي كون هذه الممارسات الثقافية معولمة ومطبوعة بتأثير الغرب بشكل خاص.


لكن هذا التنوع الثقافي ذا الطابع الفصامي، لا يؤدي تلقائياً الى انتاج العلمانية أو الديموقراطية. فهناك ثنائية في سلوك الفرد الواحد: يقرأ اليوم رواية حب، ويشاهد بعد ذلك برنامجاً دينياً على فضائية إسلاموية، ومن ثم يذهب إلى مطعم من سلسلة المطاعم المعولمة. هذا الانفصام نجده أيضاً في الميدان اللغوي: يتكلم العامية يومياً، ويتراسل ويدرس ويطعّم كلامه بالانكليزية.


لكن خلفية هذا المشهد المُحزن تكمن في أزمة الحرية في مجتمعاتنا. سبق لنخب مجتمعاتنا العربية منذ بداية القرن العشرين، أن وعت أن بناء مجتمعات عصرية ومتقدمة لتشييد النهضة الشاملة، يتطلب ترسيخ الحرية وتشجيع الخلق الفكري وبناء المجتمع المنتج، الصناعي والزراعي.


وهذا ما أخفقت مجتمعاتنا تحديداً، وعلى درجات متفاوتة، في تلبيته. لقد فشل رهان الحرية التي تشكل وحدها مفتاح التطور الذي يقودنا الى التنمية. المعوق الأساسي هو رسوخ هيمنة الأنظمة الأمنية والعسكرية التي تتغذى من الاستبداد وتغذّيه وتعمم الفساد. إنها المشكلة نفسها التي لا تزال ترافقنا منذ القرن التاسع عشر، مذ وصف الكواكبي طبائع الاستبداد، الذي يطاول جميع أوجه حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. الطاعة والخضوع، هما الحامل والحامي للقمع وللاستبداد.


مع ذلك، لا يجدر بنا الاستنتاج أنه وضع ميؤوس منه يفضي بنا الى الجمود العقائدي الدائم، لأنّه من الممكن حصول تغيير بحيث يصار إلى تفسير الدين أو فهمه وتأويله بشكل مختلف يبعث الدينامية الكامنة في مجتمعاتنا، كما حصل بالفعل في حقب أخرى من خلال اعتبارات سياسية متباينة إلى حد كبير. هذا ما يشير إليه فوكوياما عندما يجد أن ما يحصل ليس صداماً بين الاديان والحضارات، إنما هو صدام بين إيديولوجيات. إنّ الاتجاه الإسلامي أو التيار الجهادي العنيف يتبنّى مجموعة أفكار، هي في غالبيتها أفكار معاصرة نابعة من طريقة تفكير راهنة في شأن العالم تم تبنّيها؛ لكن وكما كان حصل في الماضي أو يحصل الآن في مجتمعات أخرى مثل تركيا، من الممكن تفسير الإسلام كدين بطرق مختلفة ومتعددة. وإذا ما عدنا إلى بدايات القرن العشرين، لوجدنا أنه وبالترافق مع بداية الفاشية الصاعدة في أوروبا، كان النظام السائد في إسطنبول، قلب العالم الإسلامي حينها، أكثر تسامحاً من ألمانيا أو بلجيكا أو اي منطقة في ما يعرف بأوروبا الليبيرالية. لذلك يستنتج فوكوياما أن الصراع الحالي هو مجرد اقتتال إيديولوجي؛ سبق أن عرفته إسبانيا في القرن الخامس عشر، حين قرر الاسبان طرد جميع اليهود والمسلمين ضمن تطبيق متشدد للمُثُل المسيحية، هي نفسها التي تُؤوّل الآن بشكل منفتح وتؤدي إلى ممارسات متسامحة.


لذا يظل فتح باب الاجتهاد عبر القيام بالإصلاح الديني أمراً في منتهى الأهمية. لطالما عرفت بلادنا التعددية في الأصوات الدينية؛ ففي أرض الإسلام لم يوجد مبدأ محوري وحيد متبلور بالطريقة التي انتشرت بها أفكار الكنيسة الكاثوليكية التي تتمحور حول عقيدة كاثوليكية واحدة. كانت هناك دائما طوائف متنوعة من الاجتهادات لتفسير الإسلام. من هنا، علينا العودة إلى قبول الاختلاف على أنواعه وخصوصاً المذهبي بين السنّة والشيعة واعتباره عاملاً أساسياً في إغناء مجتمعاتنا من الناحية الثقافية والحضارية.


إضافة إلى أن قيام تجارب ديموقراطية في دول إسلامية غير عربية، مثل تركيا التي تتمتع بديموقراطية ناجحة، وأندونيسيا وماليزيا اللتين تشهدان توسعا اقتصاديا سريعا، يجعلنا نعي أنّ ما يحتاجه العالم الإسلامي حقيقة هو صيغة إسلامية للديموقراطية المسيحية تسمح للمواطنين بالتعبير عن تطلعاتهم الدينية في إطار سياسي، بما يتماشى مع التعددية والتسامح ومن خلال منافسة دستورية سلمية بين مختلف وجهات النظر. بمعنىً آخر، تطوير ديموقراطية يكون فيها مجال لتأثير الدين كما هي الحال في أوروبا المعاصرة.


يجدر بالدول العربية بعد مواكبة هذه التجارب، البحث عن المعوقات التي تقف سداً في وجه التحديث، والتي قد تكون ثقافية لكنها غير مرتبطة بالدين تحديداً على ما يبدو.
من الملاحظ على كل حال أن العالم العربي يعيش حاليا أزمة حقيقية، فالعديد من مؤسساته لا تؤدي مهماتها، والسياسة تعاني من مأزق، فالجمهوريات يهيمن عليها حكام ابتدعوا التوريث "الديموقراطي" ويحكمون "إلى الأبد". هذا ما أدّى إلى حالة الجمود السائدة. ربما تكون الأزمة في مرحلتها الحاسمة، وقد تشهد الأوضاع مزيداً من التردّي قبل ان تبدأ بالتحسن. ويبدو أن المجتمعات في حاجة أحيانا للمرور بحقبة مأزومة قبل التوصل الى تطبيق إصلاح حقيقي.


الدليل على ذلك أن المجتمعات العربية تشهد عدداً من التغييرات، بحكم "تعرضها" للعالم الخارجي، وذلك نتيجة التكنولوجيا والانترنت والإعلام، فضلاً عن التبدلات التي تعيشها في الداخل من خلال مجتمع مدني بدأ يتحرك ويفور، حيث أعداد الأشخاص الذين يرغبون في إرساء نوع من المشاركة إلى تزايد. ربما تتوافر بذلك، الأسس اللازمة لقيام أنظمة سياسية عربية اكثر انفتاحا.

 

من هنا نجد أن دفع عملية الإصلاح المطلوبة من أجل تطوير المؤسسات السياسية وجعلها أكثر تمثيلاً وإخضاعها للشفافية عبر عمليتي المساءلة والمحاسبة، هو في جوهر مهام المثقف والمجتمع المدني. هذا الأمر يتطلب صياغة تحالفات عملية بين القطاعات المختلفة التي تؤمن بالإصلاح، أو بين الأحزاب والتجمعات السياسية التي يمكن أن تكون لها إيديولوجيات متباينة، شرط تقبّل قواعد اللعبة الديموقراطية.


لا يمكن وقف عملية الانفتاح التي بدأت، ولا يمكن منع سيرورة التأثيرات الإيجابية للعمليات الديموقراطية التي تحدث في المناطق الأخرى وتضع الشعوب العربية أمام تحديات مواجهة مصيرها، ما يحفزها على قبول الاصلاح والعمل من أجل إطلاقه.


أما في لبنان حيث تسود "الديموقراطية التنازلية" كما يسمّيها البعض، فيعاني نظامه من أزمة خانقة؛ لكن ما هو البديل من التعايش بين مختلف المجموعات والاتجاهات سوى التقاتل؟
فمن لا يزال يرغب بإعادة تجربة حروبنا المتعددة الوجه كبديل من قبول شرط الديموقراطية التي هي كناية عن نظام مركّب من المؤسسات السياسية تتولى إدارة النزاعات الاجتماعية لكي تتوصل إلى تحقيق توازن يتيح تحقيق الإنجازات المشتركة المطلوبة.


أخيراً، أتمسك بالتفاؤل تبعاً لخلاصة ليفي ستراوس الذي وجد أن الحضارات العظيمة الكبرى ليست نتيجة عبقرية خاصة يتمتع بها عرق أو شعب، بل لأن أصحابها قبلوا العناصر المتنوعة التي وفّرتها لهم مصادرهم الثقافية المختلفة وعرفوا الافادة منها لتوليد توليفة حضارية ناجحة. وعلى طريقة توينبي في فهم جدلية التاريخي اللولبي وغير المتساوق، ربما نستعيد دينامياتنا الداخلية التي ستطلق عجلة التغيير المطلوب.