| | التاريخ: حزيران ٢٦, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | عن الانتفاضات العربية بعد أفول الأوهام - كرم الحلو | لم تتأخر الشعوب العربية كثيراً في اكتشاف خيبتها من انتفاضات السنوات الماضية ومآلاتها المربكة. كان أبرز ما تمثل ذلك في خطابات المثقفين العرب الذين أفرطوا في التفاؤل بالانتفاضات، فاعتبرها بعض هؤلاء «عتبة لولادة عالم جديد» على شاكلة ثورة 1789 الفرنسية، ورأى فيها بعضهم تحركاً جماهيرياً يؤسس لثورة قومية كتلك التي قادها جمال عبد الناصر. وفيما ذهب آخرون إلى أننا أمام «صنف جديد من الثورات» سارع البعض إلى القول إن الانتفاضات تشكل تحولاً تاريخياً فاصلاً، ما بعده مختلف اختلافاً جذرياً عما قبله.
بعد هذه الموجة العارمة من التفاؤل التي بلغت أوجها بعد سقوط بن علي ومبارك والقذافي فوجئ كل هؤلاء بمآلات الانتفاضات وارتدادها إلى الاغتراف من موروثها المغرق في النزاع الأهلي والاستبداد. قال أحد أبرز الذين عقدوا عليها الآمال «كان الظن أن الثورة العربية الديموقراطية ستدشن موقفاً عربياً جديداً يتأسس على مرجعية «الشعب يريد» لكن سرعان ما استعاد العرب تراثهم الانقسامي وانتقالهم إلى مناطق الشروخ المذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية»، حيث ما لبثت الانتفاضات أن برهنت عن الإخلال بمبدأ المساواتية المواطنية، وتهديد الاتجاهات العقلانية ووصمها بالكفر والزندقة فضلاً عن تهميش المرأة وموقعها في الحراك الديموقراطي.
في هذا الإطار كتب ميشيل كيلو، أحد أكبر مقارعي النظام الاستبدادي في سورية: «ساد اقتناع كامل لدى قطاع من السوريين بأن الأمور ذهبت في غير المنحى المأمول، منحى الحرية والعدالة والمساواة». وأردف كيلو: «آلاف السوريين المساكين ظنوا أنهم سيخرجون من الظلم بخروجهم من النظام وعليه، فوقعوا في ظلم لا يقل فظاعة عنه، لأنهم وقعوا بأيدي مرتزقة تكمل جرائم النظام ضد الشعب».
في الإطار ذاته قال الناشط في انتفاضة تونس عميرة الصغيّر: «زين العابدين بن علي لم يعد في السلطة، لكن نظامه لا يزال قائماً. وقد أضحت تتهدد تونس أخطار جسيمة مع الحكومة الإسلامية، حتى أصبح كثيرون من التونسيين يحنون لزمن بن علي، في مواجهة نظام يظنه أصحابه إسلامياً، لكنه في الحقيقة نظام البؤس والكآبة والدمامة، نظام القرون الوسطى. لقد أصبحت تونس تهددها ديكتاتورية جديدة تتلحف بلحاف الدين والهوية».
وثمة ما يدعو للقلق والريبة في ما آلت إليه الانتفاضات من تهديد لوحدة المجتمعات وحقوق المرأة وحرية الرأي، ولعل ما جرى ويجري اليوم في سورية وليبيا والعراق واليمن، يشكل إدانة حقيقية لكل الرهانات الطوباوية التي أحاطت بالحراك الجماهيري العربي.
وجه الإرباك في هذا كله، أن ثمة التباساً مفهومياً منذ البدء في الرؤية إلى الانتفاضات. هل هي ثورة جذرية أم هي انقلاب على زعماء وقادة يحل مكانهم زعماء وقادة من النمط إياه أو أسوأ؟ وكذلك ثمة التباس في الأهداف، فهل رفدت الانتفاضات خلفية ليبرالية كتلك التي رفدت ثورة الغرب وديموقراطيته التعاقدية؟ هل كان ثمة قرار لدى جماهير الانتفاضات بمدنية القوانين، وبالمساواة التامة بين الرجل والمرأة؟ هل كان هناك تصور حداثي لأسس السلطة ودور الحاكم وموقعه في المجتمع والدولة أو اعتراف جدي بحرية الرأي والمعتقد والتفكير؟
إن تجنب التفكير في هذه الأسئلة وسواها، هو مصدر الإحباط وخيبة الأمل. الأمر الذي تنبه إليه التنويريون النهضويون، فقد حذر الطهطاوي والمراش من الاختلاط بين الثورة والفتنة وربطوا بين حداثة المجتمع وحداثة القوانين والشرائع الناظمة للحياة الاجتماعية. ورأى رشيد رضا أن الإصلاح الاجتماعي رهن بـ «تغيير أفكار الأمة وأخلاقها بنشر العلوم والآداب الاجتماعية والأخلاقية حتى يولد لدى الأمة الاستعداد للإصلاح». ورأى أمين الريحاني أن التغيير يحصل بواحد من اثنين، «بالنجاح المتدرج البطيء، أو بالانقلاب السريع الذي ندعوه الثورة، وليس كل انقلاب سياسي يأتي بالمراد ويعدّ ثورة».
أما عبد الرحمن الكواكبي فيقول آسفاً أن الأمة قد تنتفض ضد المستبد، لكنها لا تنتفض ضد نظام الاستبداد نفسه، وهكذا ينتهي بها الأمر إلى إحلال مستبد محل مستبد آخر». فالاستبداد لا يمكن مقاومته بالقوة، لأن هذا يؤدي إلى الفتنة والتدمير، ومن هنا على المثقفين واجب التوعية والحث على بث الأفكار الإصلاحية ومحاولة الإقناع بها. وعليه يرى الكواكبي أن «الوصول إلى نظام بديل من النظام الاستبدادي يتطلب معرفة بالأهداف الكامنة وراء تبديل النظام... وهي أهداف لا يتعيّن أن تكون غامضة مبهمة، بل واضحة ويمكنها أن تقنع الأكثرية وتنال انتماءها إليها».
أليس في رؤى الإصلاحيين التنويريين هذه، الكثير من العبر والدروس التي كان يمكن أن تدفع بالانتفاضات العربية في غير الاتجاه البائس الذي انحدرت إليه؟
* كاتب لبناني | |
|