التاريخ: حزيران ٢٥, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
هل اقتربت مجزرة القرن؟ - وحيد عبدالمجيد
ليست الأمم المتحدة وحدها التي يعتريها القلق على مصير سكان إدلب السورية، التي يبدو أن خطر وقوع مجزرة كبيرة فيها يقترب. لكن بعض موظفي المنظمة الدولية هم الأكثر تعبيراً عن هذا القلق، وخاصة يانوس مومتزيس منسق الشؤون الإنسانية في سورية الذي حذر في مؤتمر صحافي عُقد في جنيف في 11 الشهر الجاري من هجوم شامل على إدلب: «نحن قلقون على سكان إدلب. ليس هناك مكان آخر ينتقلون إليه. هذا فعلياً هو آخر مكان».

وهذا هو النداء الثاني الذي وجهه المسؤول الأممي خلال شهر واحد، بعد أن ناشد المعنيين بالأزمة السورية في 18 أيار (مايو) الماضي من «إيجاد حل سلمي في إدلب التي يتكدس فيها الناس، وحماية المدنيين».

غير أن مثل هذه النداءات الإنسانية تذهب أدراج الرياح عندما تجتمع مصالح قوى دولية وإقليمية على شن اعتداءات منفلتة من أي قواعد قانونية دولية، أو ضميرية إنسانية، وتتواطأ معها أطراف أخرى لا تجد مصلحة في السعي إلى وقف مثل هذه الاعتداءات، أو تكتفي باعتراض لفظي هزلي يعتقد صانعو القرارات فيها أنه يغسل قاذوراتهم السياسية.

وهذا ما حدث في مجازر عدة خلال الأزمة- الحرب السورية كان أكبرها حتى الآن في حلب في نهاية العام 2016. غير أن مذبحة حلب ستبدو صغيرة قياساً إلى الهجوم المتوقع حصوله في إدلب في وقت قد لا يكون بعيداً. سيكون هذا الهجوم، حال حدوثه، المجزرة الأكبر في سورية، وإحدى أفظع المجازر التي ارتُكبت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد مجازر الحرب الأهلية في رواندا في 1994، ومذابح الخمير الحُمر في كمبوديا في السبعينات.

أشار مومتزيس، في ندائه الأخير، إلى أحد أسباب هول ما يمكن أي يحدث في إدلب في حال شن هجوم واسع وممنهج عليها، وهو عدم وجود مكان آخر يلجأ إليه المدنيون فيها. فقد نزح إليها كثير من السوريين الذين فروا من مناطق أخرى، وهُجر إليها معظم من طُردوا من بلدات ومدن عدة. وأصبح هؤلاء المنكوبون البؤساء، مع سكانها الأصليين، في وضع أصعب من ذلك الذي تُعبر عنه قولة «العدو من أمامكم، والبحر وراءكم»، لأن المهاجمين لن يكونوا أمامهم وخلفهم فقط، بل فوقهم أيضاً في سماء مفتوحة تعربد فيها مقاتلات وقاذفات تُلقي حمماً من نار يتعذر الإفلات منها.

يوجد في إدلب الآن نحو مليونين ونصف المليون وفق تقدير الأمم المتحدة. غالبيتهم الساحقة مدنيون. عدد المسلحين يُقدر ببضع ألوف. ونحو 60 في المئة من قاطني إدلب اليوم هربوا إليها، أو أُرغموا على الإقامة فيها بعد رفضهم الاستسلام لقوات النظام وحلفائها في مناطق أُبرمت فيها اتفاقات «مصالحة» برعاية روسية. وقد أُثير مرات السؤال عن مغزى ترحيل هؤلاء جميعهم إلى إدلب، وهل يُراد لها أن تكون مخزناً بشرياً يُغلق عليهم، إلى أن تحين الساعة لخاتمة مأساوية قد تكون بعد انتهاء مسرحية اللجنة الدستورية التي يلعب «ثلاثي آستانة» والمبعوث الأممي دي ميستورا دور البطولة فيها، أو في فترة تالية.

وإذ بلغ التكدس هذا المدى، ربما لم تبق بوصة مربعة خالية من البشر في مدينة إدلب بصفة خاصة. وحين تُقصف مدينة مكدسة على هذا النحو لأيام طويلة، أو أسابيع، سيكون المشهد أقرب إلى قطعة من جحيم تلتهم نيرانه المدنيين في المقام الأول، لأن المسلحين يلجأون إلى أساليب حرب العصابات فور بدء الهجوم، ويعرف كثير منهم كيف يُدبرون أمورهم.

ولذا يمكن أن يتحول هجوم شامل على إدلب إلى مذبحة القرن الجاري في الفترة التي انقضت منه. ولم يعد ممكناً استبعاد مثل هذا الهجوم، على رغم وجود اتفاق لخفض التصعيد فيها أُبرم في العام الماضي ضمن أربعة اتفاقات عُقدت في إطار مسار آستانة. فقد خُرق اتفاقان منها بنيران هجومين كبيرين على ريف حمص، والغوطة الشرقية. كما يُنتهك الاتفاق الخاص بإدلب في غارات وعمليات قصف ما زالت انتقائية وجزئية، ولكن المعطيات تفيد أنها قد تكون تمهيداً لهجوم وحشي شامل، في حال التوصل إلى تفاهم، أو بالأحرى صفقة روسية - تركية، يكون النظام السوري جزءاً منها، ويحصل نظام الرئيـــس رجب أردوغان فيها على مقابل قد يكون في صـــورة حضور عسكري في إدلب أو على أنقاضها، وربما يتضمن دعماً لسياسته الاستئصالية تجاه الأكراد، على نحو يُقَّوي مركزه في التفاوض مع الولايات المتحدة حول مناطق سيطرتهم في شمال شرقي سورية، وقد يؤدي إلى تقليص مناطق الإدارة الذاتية التي أقاموها في هذه المناطق.

ويصعب توقع أن تقف واشنطن حائلاً دون هذا الهجوم، بسبب ارتباك سياستها الخارجية، وتكرار تواطؤها مع هجمات أسفرت عن مذابح متفاوتة، فضلاً عن أن خطابها الرسمي يشي باستعداد لتواطؤ جديد على مذبحة في إدلب، بدعوى القضاء على الإرهاب، وإنهاء وجود المنظمة التابعة لـ «القاعدة»، التي غيرت اسمها من «النصرة» إلى «جبهة تحرير الشام» المهيمنة حالياً على ما يُسمى «هيئة تحرير الشام».

قبل أشهر قليلة، أصدر مبعوث ترامب الخاص إلى سورية مايكل رتيني بياناً في (أول آب/ أغسطس الماضي) كان الأكثر وضوحاً في هذا الشأن. فقد تضمن أن «هيمنة فرع «القاعدة» في إدلب تجعل من الصعب إقناع الأطراف الدولية بعدم اتخاذ الإجراءات العسكرية اللازمة. الجولاني وعصابته هم المسؤولون عن العواقب الوخيمة التي ستحل بهذه المحافظة. وخطتهم للاختباء وراء إدارة مدنية تهدف إلى المراوغة وإيجاد واجهة زائفة».

وإذا كان قسط معتبر من تاريخ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الحقيقي سيُكتب بدماء الأطفال السوريين الذين تواطأت إدارته مع قاتليهم، فكيف يخلو سجل الرئيس ترامب الأكثر سواداً بما لا يُقارن من مسؤولية عن إراقة مزيد من هذه الدماء؟

ترامب لا يُعنى بحياة البشر وحقوقهم إلا إذا كانوا من جنسه ولونه، ولا يرمش له جفن حين يُقتل من يحتقرهم لعنصريته الفجة. ولا يُتصور، والحال هكذا، أن تزعجه مذبحة يمكن أن تكون الأكبر في هذا القرن حتى الآن، أو تشغله عن مواصلة الإعداد لما يتخيل أنها ستكون «صفقة القرن».

ولذا، سيقف متفرجاً في حال إبرام صفقة روسية- تركية يعتقد طرفاها أنها يمكن أن تكون خطوة باتجاه إنهاء الأزمة والحرب السورية عسكرياً، ولا يدركان أن المذبحة التي ستترتب عليها ستُعزز دوافع الإرهاب، وستُساهم في إعادة إنتاج الصراع في سورية في أشكال جديدة. كما لا يعيان أن مثل هذه المذابح تُمثَّل في ذاتها انتصاراً للإرهاب، لأنها تدل على نجاحه في دفع من يحاربونه إلى الاقتداء به، فيتحولون إرهابيين يقتلون أبرياء عُزلاً لا حول لهم ولا قوة.