| | التاريخ: حزيران ١٤, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | العلمانيون واليساريون بعد الانتخابات (اللبنانية): صِفْر - طلال خواجة | لم تشكل نتائج الإنتخابات النيابية الاخيرة بالإجمال مفاجأة تذكر، بما فيها اختراق بولا يعقوبيان اليتيم من خارج الأحزاب والقوى الطائفية والتقليدية التي تتقاسم بطريقة او بأخرى بعض مفاصل النظام اللبناني الطائفي. اقول بعض مفاصل لان المفصل الرئيسي المتعلق بسيادة الدولة أصبح هشا، نتيجة تفلت حزب الله وسلاحه من موجبات هذه السيادة، وارتباطه منذ نشوئه بمحور اقليمي ما زالت طموحاته واطماعه تنعكس تدميرا وتخريبا في البلاد والمجتمعات العربية، خصوصا بعد انتفاء ذريعة مقاومة العدو الصهيوني وتحرير الجنوب.
فقانون الانتخابات اتى ليعكس رجحان ميزان القوى الداخلي والاقليمي لصالح المحور الذي يقوده حزب الله في لبنان، وشكل تتمة منطقية لما سمي بالتسوية الرئاسية التي كرست الاختلال، والتي اتت ضمن عنوان عون رئيسا او لا رئيس(ما يذكر بشعار؛ الاسد او نحرق البلد) وما زاد الطين بلة في هذه التسوية، أن فريق ١٤ آذار السيادي ذهب الى هذه التسوية منهكا، مفككا وحتى متأخرا، ما القى ظلالا على نظرية ربط النزاع التي حكمت الحكومات السابقة والتي حفظت نسبة معقولة من التوازن.
وحتى لا نضع المسؤولية في الاختلال الفادح على كاهل الاحزاب الطائفية "السيادية" فقط، دعونا كعلمانيين واصحاب سوابق يسارية، وكمستقلين عموما في حراك ١٤ آذار السيادي نتواضع ونعترف بالوهن والضعف الذي يعتري صفوفنا، رغم النفس الكبير الذي اخذناه بداية عند انطلاق الربيع العربي، خصوصا في محطته السورية، اذ يقع بلدنا على تماس مباشر مع الفالق الجيوسياسي السوري. وتشكل تجربة المجلس الوطني الفاشلة والتي "سايرنا" فيها المناضل الراحل سمير فرنجية، والذي لم يكل ولم ييأس باستيلاد اطارات وافكار مستقلة وجامعة وعابرة للطوائف، خير دليل على ضعف الحركة السيادية المستقلة في ١٤ آذار.
النفس الثاني اخذه المستقلون من الحراكات المطلبية والحياتية والبيئية والتي استطاعات جذب فئات مدنية وحتى شعبية واسعة الى ميادينها، الا ان شعاراتها بقيت مبهمة وملتبسة، خصوصا حين رفعت شعارات سياسية حيدت فيها القضية السيادية الرئيسية، كما أن امراض الشخصانية والفردية سادت بعض قياداتها الناشئة او المركبة، ما جعل اختراقها سهلا من منوعات ومجموعات لطالما شكلت عبئا على النضال العلماني والديموقراطي عموما، وهذا ما ادى الى شبه تلاشيها قبل الظهور مجددا في الانتخابات البلدية والنيابية.
فبين النسبية التي تناسب حزب الله والارثوذكسي بالصوت التفضيلي الذي يفضله التيار الوطني الحر جرى تقسيم الدوائر بما يعكس الواقع المختل، علما ان بعض القوى من بقايا ١٤ آذار لحست المبرد في صياغة القانون المشوه، خصوصا حين اوهمت او انوهمت ان انتفاخها واقتناصها بعض المقاعد يشكل ضمانة القضية السيادية.
لقد شكلت صياغة هذا القانون اعترافا بشاركة حزب الله عبر حلفائه باختراق تمثيل الطائفة السنية في عقر دارها اي في المدن والمناطق التي شكلت الخزان البشري السيادي بعد اغتيال الحريري (واستكملها بغزوة الموتوسيكلات)، علما ان مشاركته الطوائف المسيحية تتم بالتفاهم مع التيار الوطني الحر ومع قوى وشخصيات اخرى، ورغم المرونة والثعلبة الجنبلاطية، الا ان قدرته للعب ضمن الطائفة الدرزية لا يستهان بها. اضيف ورغم التباعد الشديد بين حزب الله والقوات، فان المبالغة وكيل المديح في عفة وزراء ونواب الطرفين ليست كاملة البراءة. ذلك ان منظومة الفساد المرافقة للنظام الطائفي السياسي والمتحولة الى ثقافة في عهد الوصاية، قد تصلبت وتجذرت مع ضرب سيادة الدولة وتهديد كيانها وانشاء دويلة ضمن الدولة والدخول في مواجهات وحروب لحسابات ومصالح خارجية.
على هكذا خلفية بدأت المباراة النيابية غير المتكافئة والتي كادت تخلو من السياسة، لولا الردود الدفاعية على الشعار الحزب اللاهي "نحمي ونبني"، والذي كان يشي بمزيد من اقتحام الحلبة الداخلية، على طريقة؛ السياسة والأمن لنا والادارة والاقتصاد والاجتماع وحتى النقد لنا ولكم، وما إدخال مفرد وزارة التخطيط سوى التعبير الصارخ عن هذا التوجه تحت ذريعة محاربة الفساد الذي يساهم حزب الله في ابرز تجلياته، عبر اضعافه مؤسسات الدولة السيادية وحماية التهريب المقاوم من المعابر والمطار والمرفأ، وعبر المساهمة في تورم القطاع العام وتدني إنتاجه وتغطية هدر وارتكابات حلفائه، علما أن البعض يجادل بأن هذا التوجه يعكس مؤشرات إيجابية .
لقد قلنا منذ البداية ان القوى المستقلة والعابرة للطوائف ليست وازنة، وان بعض المجموعات المبتدعة حديثا، تحت مسمى المجتمع المدني، تحاول اختصار طريق النضال الديموقراطي الشاق والمعقد والمتعرج، بالقفز الى ساحة النجمة تحت شعار مكافحة الفساد وبرامج غب الطلب وشتم الطبقة السياسية التي تعتمد المحاصصة والزبائنية، وكأن هذه الطبقة اتت من كوكب آخر، خصوصا حين رفعت شعارا ملتبسا "كلن يعني كلن" وهو ما اراح صدر الحزب المسلح حتى الاسنان والذي يشكل الخطر الاكبر على كيان البلد وامنه، وبالطبع على اقتصاده المتراجع بفضل تراجع الاستثمارات، الخليجية منها خصوصا. لذا لم يكن غريبا، وان كان معيبا، ان يلجأ بعض الخاسرين لشتم الناس بعد صدور نتائجهم المريعة مساويا بين الناس والطبقة السياسية،على طريقة "مثل ما تكونوا يولى عليكم" فحين يصبح الموضوع قوم لاقعد محلك لاني انظف منك، فستختار الناس من تعتقد انه الافضل في حماية مصالحها الفردية والجماعية في نظام الطوائف وليس من يعدها بقصور من رمال.
هكذا تكاد تتطابق مصالح الناس مع مصالح زعماء الطوائف، وهكذا نفهم التفاف العامة حول سعد الحريري في زياراته للأحياء والقرى ذات الغالبية السنية، رغم تراجعه واستضعافه نتيجة الموازين المختلة وبعض الخيارات، ما مكنه من تخفيف الخسائر المتوقعة من القانون الانتخابي، خصوصا حين استطاع استنهاض العامة حول خطر حزب الله على الكيان وعلى التوازن الطائفي، رغم تأكيده انه ماض في سياسة الاستقرار والتسوية التي ظللتها والتي سماها الواقعية السياسية.
وهكذا يصبح النظام الطائفي الذي يكرهه وعن حق العلمانيون واليساريون قادرا على منع حزب الله من الاطباق الكلي على البلد، خصوصا ان جعجع وجنبلاط حصدا نتائج مهمة تحت سقف النظام الطائفي وحتى حليف حزب الله المسيحي استعمل لغة ملتبسة ومذهبية، منتقدا بعض تداعيات الشيعية السياسية على الجمهور المسيحي لشد العصب بمواجهة الصعود القواتي. فهذا النظام الطائفي لطالما سمح منذ نشوئه بفسحة من الحرية والمناورة كما شكل سدا بوجه الانقلابات والتفرد المطلق رغم فائض القوة التي لا تصرف في احيان كثيرة. وللمفارقة فان هذا الواقع الملتبس يعني ان الدولة ضعيفة والنظام قوي وان نسبيا، ما يجعل مهمة القوى السيادية المستقلة اكثر تعقيدا وصعوبة.
هل نضمر في تحليلنا للواقع السياسي ولتوزع القوى السياسبة بعد الانتخابات يأسا من صعود قوى لبنانية مستقلة عابرة للطوائف في هذه المرحلة؟
ام ندعو لتبصر قواها المتبعثرة بتعقيدات الواقع السياسي اللبناني وتناقضاته المختلفة والنظر الى خطورة المرحلة، خصوصا مع تصاعد المواجهات الدولية والاقليمية، وحشر البلد الصغير بين زوايا حادة، وفي الحقيقة فانه يجري حشر المنطقة العربية والمشرقية خصوصا بين سندان اسرائيل وايران وتركيا ومطارق روسيا واميركا، ما يجعل مهمة اليساريين والعلمانيين والمتنورين وعموم النخب كمن يحفر الجبل بابرة.
ومع ذلك فانني لا ارى طريقا اقصر.اما القفز الى آخر السباق والتعامي عن طبيعة الاخطار الكيانية وغيرها من الاخطار البنيوية فلن يؤدي سوى لمزيد من الاحباط واليأس المترافق مع حصة وازنة من الشتائم، ما يزيد في هامشية هذه النخب ويزيد في انكشاف القوى السيادية لتصبح اكثر مذهبية واقل قدرة على مجابهة الأخطار المحدقة بالبلد، بما فيها الخطر الكياني.
أستاذ في الجامعة اللبنانية | |
|