| | التاريخ: حزيران ١٠, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | ما تخبرنا به الأزمة الإيطالية عن قصورنا الديموقراطي - وحيد عبدالمجيد | كثيرة هي عوامل فشل محاولات فتح طريق باتجاه التحول الديموقراطي في العالم العربي. وأكثر منها مظاهر هذا الفشل في بلدان بدأت تلك المحاولات في بعضها منذ ما يقرب من قرن.
غير أن العامل الأهم، والمظهر الأوضح، لهذا القصور يرتبط بخلل في العلاقة بين إجراءات الديموقراطية وقواعدها التنظيمية من ناحية ومبادئها وثقافتها من الناحية الثانية.
المنادون بالديموقراطية، والمتطلعون إليها، في بلداننا العربية نوعان. الديموقراطية بالنسبة إلى النوع الأول محصورة في الانتخابات، وما يقترن بها من إجراءات. وعندما تُختزل الديموقراطية في صندوق، يمكن أن تُدفن فيه بعد انتهاء الانتخابات، ما دامت معزولة عن مبادئها التي تضع حدوداً زمنية وموضوعية للتفويض الانتخابي، وتضمن التزام من يحصلون على الغالبية باحترام حقوق غيرهم.
أما النوع الثاني من «الديموقراطيين» في بلداننا فيشمل من يبدو أنهم مقتنعون بمبادئ الديموقراطية، ومؤمنون بثقافتها، وحريصون أيضاً على سلامة إجراءاتها.
ويقول بعضهم عن أنفسهم إنهم ليبراليون. غير أن «ليبراليتهم» تنكشف في أول محك، ويتبين أنهم مستعدون للانقلاب على مبادئ الديموقراطية، وعملياتها الإجرائية، في آن معاً، حين يخسرون انتخابات أو أخرى، خصوصاً حين يكون الفائزون فيها من النوع الأول.
وإذ تُعد جماعات الإسلام السياسي أكبر مكونات هذا النوع الأول، فقد أصبحت معظم التيارات التي يشملها النوع الثاني أكثر استعداداً للارتداد عن الديموقراطية بمقدار ما تثيره تلك الجماعات من خوف لديها.
ولذا ربما يمكن فهم الطور الراهن في حال الاستعصاء الديموقراطي العربي، بعد أن لاح أمل كبير في الخروج منها خلال ثورات «الربيع العربي» وانتفاضاته، في ضوء عوامل أهمها تفاقم الأزمة المترتبة على صعود جماعات الإسلام السياسي وأحزابه، والتداعيات التي نتجت من فوز بعضها في انتخابات برلمانية ورئاسية، ووصولها إلى السلطة منفردة، أو على رأس تحالف تدور أطرافه الأخرى في فلكها.
أدى هذا الصعود إلى تقوية اتجاهات ترى في تلك الجماعات العائق الأكبر أمام أي تحول ديموقراطي، وتتصرف على هذا الأساس، من دون اهتمام بالبحث في كيفية فتح الطريق الذي يغلقه هذا العائق. ويؤدي هذا المنهج المدفوع بخوف من هيمنة جماعات الإسلام السياسي إلى ترسيخ القصور الديموقراطي، نتيجة تفضيل الارتداد عن الطريق الذي تُغلقه هذه الجماعات، بدل السعي إلى فتحه.
فقد كشفت المواقف والتفاعلات وأنماط التحالفات، التي ترتبت على الحراك الذي أحدثه «الربيع العربي»، أن القصور الديموقراطي في العالم العربي ينطوي على نقص فادح في ثقافة الديموقراطية، سواء لدى من يختزلونها في انتخابات، أو من يزعمون إيماناً بمبادئها.
ولذا تبدو مسألة العلاقة بين إجراءات الديموقراطية ومبادئها في بلداننا العربية مختلفة عنها في أوروبا، التي واجهت أزمة كبيرة متعلقة بهذه المسألة عندما استُخدمت الانتخابات وسيلة لتقويض الديموقراطية في بعض دولها بين عشرينات القرن الماضي وستيناته.
فقد عمل الأوروبيون في الدول الأخرى على تحصين الديموقراطية، التي هددها أيضاً توسع نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق وإقامة نظم موالية له، وتنامي أدوار أحزاب شيوعية في داخل عدد متزايد من دول القارة. لم تكن الديموقراطية راسخة في المجتمعات الأوروبية في تلك المرحلة العصيبة. لكن ثقافتها كانت قوية لدى السياسيين المؤمنين بها، فتصرفوا انطلاقاً من اقتناع بأن انخراط الأطراف التي تُهددها في النظام الديموقراطي يؤدي إلى تعودها على آلياته، واندماجها فيه، واكتسابها مع الوقت شيئاً من ثقافة الديموقراطية. وهذا منهج مختلف كلياً عن ذلك الذي يتصرف على أساسه معظم من يُعدون أنفسهم ديموقراطيين في العالم العربي.
وعلى رغم أن هذا المنهج الأوروبي حقق نجاحاً كبيراً، وخلق نموذجاً يُقتدى به، فقد أثير جدل متزايد في السنوات الأخيرة حول الخطر الذي سيترتب على صعود أحزاب وحركات قومية ويمينية متطرفة، وشعبوية، وهل هذا خطر على النظام الديموقراطي، أم على الاتحاد الأوروبي في الأساس.
ومؤدى هذا السؤال أن التهديد الذي يواجه الديموقراطية في أوروبا صار أقل مما كان عليه قبل عقود، وأن المنهج الذي اتُبع في المرحلة التي بلغ فيها هذا التهديد ذروته ساهم في تقليص خطره، فلم يعد فوز أحزاب متطرفة في الانتخابات، ووصولها إلى السلطة، يعني تقويض النظام الديموقراطي.
فقد أصبحت هذه الأحزاب أقل تطرفاً، وأكثر مرونة، على نحو يساعد في تفعيل أحد أهم مقومات الممارسة الديموقراطية، وهو الاستعداد للحوار، والقدرة على المساومة التي تؤدي إلى حل وسط للخلافات. ونجد بعض تجليات هذا التطور في أزمة تشكيل الحكومة الإيطالية التي أظهرت طريقة معالجتها مدى فداحة قصورنا الديموقراطي.
بدأت مقدمات الأزمة بفوز حزبين يعبران عن اتجاهات شعبوية ويمينية متطرفة (الخمس نجوم، ورابطة الشمال) بالغالبية في الانتخابات التي أجريت في 4 آذار (مارس) الماضي. ولكنها لم تبلغ المستوى الذي يفرض الاهتمام بدلالتها إلا في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي عندما قدم المكلف بتشكيل حكومة يقودها هذان الحزبان، جوزيبي كونتي، أسماء أعضائها إلى رئيس الجمهورية لكي يدعو البرلمان إلى الاقتراع على الثقة بها.
ولكن الرئيس سيرجيو ماتاريلا اعترض على اسم باولو سافونا المرشح وزيراً للمال، ليس بسبب أفكاره المناهضة للاندماج الأوروبي في حد ذاتها، ولكن لأن تسميته لهذا المنصب تخالف تعهد الحزبين في حملتهما الانتخابية بتغيير أوروبا إلى الأفضل، وليس الانفصال عنها.
وتفاقمت الأزمة عندما رفض كونتي تغيير الوزير المرشح، وأعلن تخليه عن مهمة تشكيل الحكومة، فلم يتراجع ماتاريلا، بل مضى خطوة أبعد وكلف شخصاً محايداً بتشكيل حكومة انتقالية تمهد لإجراء انتخابات جديدة. أراد ماتاريلا ممارسة ضغط قوي على الحزبين اللذين يملكان الحق في تشكيل الحكومة، وليس إقصاءهما. وحقق هذا الضغط هدفه، إذ أبدى الحزبان مرونة، فعاد كونتي إلى مهمته، وأعاد تقديم أسماء حكومته إلى كاتاريلا في اليوم الأخير من الشهر الماضي، بعد إسناد وزارة المال إلى شخص أكثر اعتدالاً في موقفه تجاه العلاقة مع أوروبا.
وعندئذ انفرجت الأزمة على رغم أن خصوم الحزبين اللذين يقودان الحكومة الجديدة ما زالوا قلقين من توجهاتهما، ولكنهم يؤمنون بحقهما في تشكيل الحكومة، وبأن النظام الديموقراطي يتسع للجميع إلا من يمارسون العنف، أو يُحرّضون عليه. كما يعرفون، من دروس الخبرة الأوروبية، وتجارب أخرى في العالم، أن احتواء الأحزاب والحركات الأقل إيماناً بثقافة الديموقراطية، وليس استبدال ديكتاتورية ما بالنظام الديموقراطي، هو السبيل إلى التقدم.
وأسهمت مرونة الحزبين الحاصلين على الغالبية، عندما وافقا على تغيير حقيبة الوزير المعترض عليه، ووجها رسائل تفيد أنهما لا يرغبان في تقويض الاتحاد الأوروبي، في طمأنة القلقين من توجهاتهما، ومن ثم في التعجيل بانفراج الأزمة.
وهذا بعض ما تخبرنا به هذه الأزمة، ويُفيدنا في معرفة مدى قصورنا الديموقراطي، وكيفية معالجته حين تلوح فرص أخرى في المستقبل، فلا تُهدر بدورها. وليتنا نتابع أداء الحكومة الإيطالية الجديدة، فربما نتعلم شيئاً على صعيد كيفية إدارة الاختلاف في داخلها، لأن ما يجمع الحزبين اللذين يقودانها أقل مما يفرقهما، وبخاصة على صعيد السياسات الاقتصادية والمالية.
| |
|