التاريخ: حزيران ٧, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
تركيا حين تتجه بالسلاح شرقاً - مرح البقاعي
امتنع مجلس الشيوخ الأميركي، لدى تصويت أعضائه أخيراً على قانون الإنفاق العسكري، من السماح لتركيا بمتابعة صفقة سلاح قوامها مائة طائرة مقاتلة من طراز «F-35» تريد الحصول عليها من الولايات المتحدة. إلا أن عدم تمرير المشروع من قبل المشرعين الأميركيين قد يدفع أنقرة أن تتوجه شرقاً نحو روسيا لاقتناء طائرات «Su-57» وهي أحدث المقاتلات الحربية الروسية (على رغم المشكلات التكنولوجية التي تعتريها)، وقد تكون بذلك الصفقة التالية إثر الاتفاق مع الروس لشراء منظومة الصواريخ الدفاعية»S-400». وطبقاً لهذا السيناريو تكون روسيا قد قفزت من نافذة تركيا إلى دارة الحلف الأطلسي «الناتو» دونما استئذان أو تحفّظ، الأمر الذي قد يتحوّل إلى كابوس حقيقي للدول الشريكة لتركيا في الحلف. وإذا حدث أن اشترت تركيا المقاتلات الروسية المذكورة فستكون الزبون الأول في العالم لهذه الطائرات، وستساهم في خلخلة التوازن العسكري في بيت الناتو الداخلي، وتهجين آلته العسكرية بأخرى منافسة قادمة من الشرق.

أما امتناع أميركا عن بيع طائرات F-35 لتركيا فيصبّ في النهج الحمائي نفسه، إذ أن وصول تلك المقاتلات إلى تركيا جنباً إلى جنب ومنظومة الصواريخ الروسية S-400 سيكون أقصر طريق لموسكو للكشف عن أسرار التكنولوجيا العسكرية الغربية، خصوصاً المقاتلة الأميركية F-35، وكذا الخطط اللوجستية للدفاعات الجوية في الحلف الأطلسي، وبالتالي ستطور روسيا ما يتفوق على السلاح الجوي الأميركي ويتحداه في الأجواء، وهذا ما لن تسمح به واشنطن البتة. فما هي دواعي المدّ والجزر بين واشنطن وأنقرة التي أوصلت العلاقة بينهما في بعض الحالات إلى حواف خطرة ليس آخر أسبابها دخول القوات التركية مدينة عفرين وطرد أهلها منها؟!

للإجابة عن هذا السؤال بدقة ومن مصدر معتمد، لا بد من العودة إلى التقرير الذي صدر عن مركز البحوث الخاص بالكونغرس الأميركي (CRS) في آذار (مارس) 2018، والذي يرسم خارطة العلاقات الأميركية التركية، ويقدّم التوصيات والملاحظات لأعضاء الكونغرس في هذا الشأن. جاء في التقرير ما مفاده أن تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا هو معقّد على الرغم من أن تركيا حليف للناتو منذ 1952، فتركيا هي جمهورية دستورية تعددية، أغلبية سكانها من المسلمين، تمتد أرضها على قارتين وتشغل حيزاً جيوسياسياً في الشرق الأوسط، وهي ذات اقتصاد غني ومتنوع. ويجتمع المشرعون وصانعو القرار الأميركيون، جمهوريون وديموقراطيون على حد سواء، على أن تلك المقومات التي تتمتع بها الدولة التركية هامة ومؤثرة في مصالح الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، إلا أن ترتيب أولويات العلاقة بين البلدين هو العقدة الحقيقية، وهو يخضع لعوامل التناقض بين واشنطن وأنقرة في الأدوار الإقليمية ومصادر التحديات السياسية والعسكرية وتداخلات الجغرافيا السياسية، حيث تتقارب المصالح تارة، وتتباعد تارة أخرى، ما يخلق حالة متصاعدة من النفور الدبلوماسي والامتعاض السياسي الذي تترجمه واشنطن بالطريقة والمستوى الذي تراه مناسباً. ويضيف التقرير أن هناك عاملين محددين لتعالي الجدل السياسي بين العاصمتين هما: الوضع السوري على الحدود التركية في ظل العمليات العسكرية التركية ضد قوات سورية الديموقراطية الكردية التي تدعمها أميركا، والتوغل التركي الأخير في عفرين، ومستقبل منبج. أما العامل الثاني فيتعلق بمنظومة الصواريخ S-400 التي تحدثتُ عنها آنفاً، والتي تقلق واشنطن وحلفاءها بشدة. ويضاف إلى هذين العاملين الرئيسين، ودائماً وفق التقرير، التحريض السياسي التي تمارسه القيادات التركية ضد الولايات المتحدة وذلك من خلال تجييش الخطاب المعادي لها على المستوى الشعبي التركي، والصراع على الحدود السورية والعراقية الذي تصاعد بقوة منذ 2011، وتحفظ واشنطن حيال سياسة القبضة الحديدية التي يحكم بها الرئيس رجب طيب أردوغان، لا سيما بعد فشل المحاولة الانقلابية ضده في 2016.

وفي حمأة تصاعد مخاوف واشنطن من التقارب الروسي- التركي الذي بدأ يأخذ شكلاً متقدماً من التعاون العسكري، التقى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بنظيره التركي مولود جاويش أوغلو، لتعلن وزارة الخارجية التركية إثر ساعة كاملة من اجتماع موسّع في مبنى الخارجية الأميركية، عن إطلاق خارطة طريق في شأن أمن مدينة منبج ومستقبلها، تتضمن خروج قوات سورية الديموقراطية الحليفة لواشنطن من المدينة، والشروع بإدارة مدنية مختلطة. وتأتي هذه المبادرة في محاولة لرأب الصدع بين البلدين، فلا واشنطن تريد لأنقرة أن تُدفع دفعاً باتجاه روسيا في واقع غياب الدعم الأميركي والبدائل الغربية، ولا أنقرة - ضمناً- ترغب بالانحراف عن مسارها وتحالفاتها مع دول الحلف الأطلسي شرقاً والارتباط عسكرياً وسياسياً مع موسكو، لا سيما أن التاريخ الطويل من النزاعات والحروب الممتدة من القرن السادس عشر حتى العشرين بين الإمبراطورية الروسية والسلطنة االعثمانية ما زال حاضراً بذاكرته المظلمة، حيث كانت روسيا هي المنتصرة باستمرار، حتى وصل الأمر أن طالب الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين بأراضٍ من أنقرة بعد خسارتها الحرب في العام 194، ما دعا تركيا للالتحاق بحلف شمال الأطلسي فوراً.

فصل المقال يكمن في عمق وفاعلية التوازنات التي سيحققها رجب طيب أردوغان وهو مقبل على انتخابات مصيرية في 24 حزيران (يونيو) الجاري، وقدرته على الانسجام مع مطالب الولايات المتحدة دون الارتماء الغيبي في الحضن الروسي الذي لم يكن يوماً حضناً دافئاً لتركيا.

* كاتبة سورية