| | التاريخ: أيار ٢٧, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | حركة الطلاب الفرنسية وانتفاضة الشباب المصرية - صلاح سالم | ربما كانت ثورات الشباب في أوروبا، والتي طبعت عام 1968 بطابعها، وبالذات في فرنسا حيث كانت النواة الصلبة لها هي حركة الطلاب، بمثابة انتفاضة رؤيوية على ما سيحدث بالفعل في أوروبا والعالم بعد ذلك، أكثر منها احتجاجاً على ما كان قائماً آنذاك. فكل ما احتجت عليه وتمردت ضده صار حاضراً اليوم بقوة تفوق كثيراً وبمراحل حضوره الذي كان قبل نصف القرن بالضبط، بدءاً من ربيع براغ الذي انقلب خريفاً سريعاً تحت وطأة التدخل السوفياتي العنيف والساحق، وانتهاء بحركة طلاب فرنسا التي اندلعت مساء 11 أيار (مايو)، واستمرت ساخنة لنحو ثلاثة أسابيع بدأت بإقامة المتاريس في شوارع باريس، وأعقبها كر وفر وتخريب وصيت واسع بدعم من الحركات العاملية، قبل أن تهدأ بتراجع دعمها من العمال، وسيطرة الدولة على مجرياتها، من دون أن تحقق أهدافاً كبرى (سياسية في الأقل) أو تترك أثراً واضحاً، وهو أمر يبدو أنه لم يكن مصادفة بل ربما كان نتاجاً منطقياً لطبيعتها الخاصة.
مثلت هذه الثورات موجة احتجاجية عامة على طيف واسع من القضايا على رأسها شمولية ومادية نمط الحياة العصري، وتعددية أنماط الهيمنة الفئوية التي مارستها جماعات مختلفة على أخرى، سواء الهيمنة الجيلية من الآباء الذين تورطوا في الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من حرب باردة أو حروب بالوكالة على غالبية خريطة العالم، أو الهيمنة الجنسية الذكورية على نحو أطلق النزعة النسوية من عقالها لتصبح فلسفة كاملة بعد عقد واحد من الزمن، لا يزال يزداد حضورها في عالم القرن الحادي والعشرين، أو حتى الهيمنة العرقية على غير البيض، تأثراً بحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة التي كانت ملهمة ضمناً، وإن لم يصرح كثيرون بالربط بين هذه وتلك.
وفضلاً عن تلك الهيمنة الفئوية كان ثمة احتجاج اقتصادي في ما بدا لهؤلاء الشباب من أشكال تفاوت مادي، مطالبين بنظام أكثر عدالة ومساواة في مجتمعاتهم، وكذلك احتجاج سياسي على شوفينية حكوماتهم، التي تورط بعضها في حروب توسعية رفضوا الاشتراك فيها. كما كان ثمة تمرد عام يمكن وصفه بالسيكولوجي، على عموم التيار السائد بلغ حد الامتناع عن الدراسة في جامعات دولهم، في محاولة لخلق ثقافة مضادة، أو «مجتمع بديل» لعله يكون أكثر حميمية وإنسانية.
والبادي لنا أن هؤلاء كانوا جوعى للروحانية في عصر بدت العلمانية أقرب إلى ديانة إنسانية، لا رفضاً للعقلانية ذاتها بل لأشكالها الأكثر تطرفاً، والتي اتخذت شكل أرثوذكسية جديدة تطلب من جموع البشر المحدثين عبادتها، حيث المزاج العلموي المهيمن على الحداثة جعل من العلم أيديولوجيا كاملة، تنطوي على تفسير شامل للوجود وليس فقط رؤية منهجية لمقاربة ظواهر الطبيعة، ومن ثم رفض تقبل أي أسلوب آخر للوصول إلى الحقيقة، فاتخذت الحياة شكل مجموعة حتميات دارت في فلك مفهوم التقدم التاريخي، وانطوت في إسارها مجالات الحياة المتعددة.
ومن ثم نبعت الحاجة إلى تدين جديد (فائق) ولكن بالمعنى الروحي، من دون عقيدة كلية، أو بنى سلطوية تتأسس حولها. لذا، اتخذت هذه الحركات شكلاً رومانسياً، اتسم ببراءة ظاهرة، إذ جمعت بين كل أطياف الفكر الممكنة، ودمجت بين كل الشعارات الممكنة، على منوال النزعة الرومانسية التقليدية، ربيبة القرن التاسع عشر، والتي كانت انفجرت في الفضاء الأدبي والفني خصوصاً، ضد الشموليات القائمة آنذاك، والتي كانت تمارس باسم العقل النظري (التنويري)، في ظل ظرف تاريخي تتمثل خلفيته الأساسية في الثورة الصناعية الأولى، وما وقع خلالها من تضحيات جمة، وما تولد منها من اغتراب عميق ومآسٍ كبرى، ضمن عمليات إعادة التشكيل الاجتماعي التي ترتبت على حركة التحديث المتسارع آنذاك.
هل تذكرنا هذه الحركة الشبابية بحدث قريب؟ ربما هو انتفاضة 25 يناير في مصر، والتي هبت عاصفتها بفعل حركات شبابية أجادت توظيف وسائل الاتصال الاجتماعي وحولتها بؤراً ثورية تحول معها المدونون على فايسبوك وتويتر قادة طليعيين، أنتلجنسيا جديدة تبشر بثورات عصر ما بعد الحداثة، بعد أن تعذر إصلاح النظام السياسي القائم من داخله، وعزت الثورة علـــيه من خارجه بفعل ذبول النخبة الســياسية التقليدية وإمعانها في خدمته على رغم أنها من المفترض أنها تعارضه نظرياً.
يمكن اعتبار الحدث التونسي هنا خلفية للحدث المصري بقدر ما كان حدث براغ ملهماً الحدث الفرنسي أساساً، كما تمكن استعادة البراءة الرومانسية لحركة الطلاب باعتبارها تلك الطهرانية التي وصفت بها الثورة المصرية التي طالما مجدت لأنها من دون قائد واضح، أو أيديولوجية محددة، ولأنها أيضاً ليست بنتاً لحزب أو تيار سياسي، بل نتاج لضمير العموم وأحلام الشباب. ولأنها كذلك مستقلة عن كل أطياف النخبة السياسية القائمة، والتي دأب الإعلام آنذاك، نفاقاً بالتأكيد، على شيطنة ما تبقى منها صالحاً أو قابلاً للإصلاح، وما ترتب على ذلك من هجاء كل من يحاول الاقتراب منها سواء من الشخصيات الكبيرة أو الأحزاب العريقة، حتى لا تقوم بسرقتها أو تدنس طهرانيتها، كأن القيادة أمر معيب، أو أن السياسة رجس من عمل الشيطان. فإذا ما تراجعت هذه القوى، الحائزة خبرة القيادة، أمام شباب الثورة الذين قادهم الجموح الشديد، مع نقص الخبرة، إلى توريطهم والتيار المدني في صراعات عبثية مع الجيش بلغت أحياناً حداً دموياً، فمن الذي يتقدم إذاً؟
لقد تقدمت جماعة دينية منظمة، ونجحت في السيطرة على عقل المجتمع، ومراوغة الجيش، وإقناع الولايات المتحدة بمركزيتها وصولاً إلى الحكم، فكانت أكثر سنوات الحياة المصرية اضطراباً وبؤساً وعدواناً على القيم المدنية للدولة الحديثة.
| |
|