التاريخ: أيار ٢٧, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
فرنسا.. خمسون عاماً بلا ثورة - عمر قدور
تعيش فرنسا موسماً من الإضرابات والمظاهرات، احتجاجاً على سياسات ماكرون الاقتصادية، إلا أن تزامنه مع اليوبيل الذهبي للثورة الطلابية غير قابل لتحمّل معنى إضافي. احتجاجات اليوم كانت متوقعة، وأتت من النقابات التي كان يُتوقع عدم موافقتها على سياسات ماكرون، فلا عنصر مفاجأة كالذي كان قبل خمسين عاماً. ماكرون، الذي أراد أثناء حملته الانتخابية التشبّه بديغول، لا يبدو في سبيله لأن يحصد ثورة كالتي حدثت أيام الثاني، وتوجهاته الاقتصادية تجعله أقرب لثاتشر مع اندفاع شخصي أقل، ومع كوابح يفرضها النظام الاجتماعي الفرنسي وقوة النقابات.

طلاب الجامعة اليوم لا يذكّرون بأولئك الذين قاموا بالثورة. هموم التغيير لم تعد بذلك الأفق القديم، وفي نسبة معتبرة تغلّبت عليها هموم العيش بعد الانتهاء من الجامعة. اليمين أصبح له حضور أقوى من السابق، ودعايته المبنية على معاداة الأجانب تلاقي قبولاً، إذ تحمّلهم مسؤولية التراجع الاقتصادي وقلة فرص العمل.

أهم من ذلك، عدم وجود حراك ثقافي كان ملهماً لموجة الستينات، فإلى جوار الجامعة كانت المقاهي الثقافية تعجّ بنشاط ثقافي مضاد للسائد آنذاك. الفجوة بين الثقافة الصاعدة والواقعين الاجتماعي والسياسي كانت من العمق، إذ تتسع لثورة، وربما ينسى كثرٌ اليوم أن وجه فرنسا الحالي (وإلى حد كبير وجه أوروبا) صنعته ثورة الستينات، على صعيد الحريات العامة وتقدّم حقوق النساء والفئات المهمّشة بما يوازي أو يفوق التقدم على صعيد الدور الاجتماعي للدولة.

اليمين كان أكبر المتضررين، ليس بسبب تشذيب السياسات الاقتصادية فحسب، وإنما بسبب ميوله الفكرية المحافظة عموماً، وهذا ما دفع رئيساً قريب العهد هو ساركوزي إلى التوعد بالانقضاض على مفاعيل ثورة أيار (مايو) 1968. من هذه الزاوية، يجوز الظن بأن اليمين قد نجح بثورة مضادة استغرقت نحو خمسة عقود، إلا أن هذه الفرضية قاصرة عن تفسير أزمة أحزاب اليمين التقليدية وهشاشة اليمين الشعبوي.

وصول ماكرون إلى الرئاسة كان أبلغ تعبير عن أزمة الطبقة السياسية الفرنسية، وهي أزمة غربية عامة أوصلت إلى ما تمكن تسميتهم بزعماء الصدفة، إلا أن وصولهم للسلطة أفضل تعبير عن الفراغ والإحباط. ما يجمع هؤلاء الرؤساء عدم امتلاكهم مشاريع سياسية على الضد من الطبقة السياسية التقليدية، بقدر ما هم متعيّشون على إفلاسها، هم تعبير عن الأزمة لا عن سبل الخروج منها.

منذ مستهل السبعينات تضاءلت الفوارق بين اليمين واليسار التقليديين، وفي العديد من المواسم الانتخابية كان التباين في طروحاتهما يقتصر على نسبة ضئيلة جداً من معدل النمو المُستهدف، مع ميل اليسار إلى نسبة أقل تجنباً لآثاره على الشرائح الأقل دخلاً. يمكن القول إن تداول السلطة بين اليمــين واليـــسار خلال عقود لم يكن له تأثير ملموس، فلا اليمـــين جنح إلى الانقضاض على المكتسبات الاجتماعية، واليسار لم يعد يسعى إلى أكثر من الحفاظ عليها، وأحياناً تقديم تنازلات صغيرة على حـــسابها، وفي هـذه الأثناء لم تظهر زعامات على الجانبين ذات مشروع «ثوري» يحظى بجاذبية.

في انتخابات الرئاسة الأخيرة حاول اليمين واليسار استرجاع خطابات سابقة أكثر راديكالية، إلا أن وظيفتها انحصرت بمحاولة استرجاع شعبية مفقودة، ما منح ماكرون ميزة التقدم عليهما فقط لطرحه نفسه خارج الخندقين.

مكانة أوروبا الخارجية كانت تتراجع أيضاً طوال هذه العقود، وإن احتفظت جزئياً بكونها مركز إلهام ثقافي بالمقارنة مع الشرق السوفياتي والغرب الأميركي. ويُسجّل للثورة الطلابية، وما سبقها ورافقها من حراك فكري، أنها فتحت على نقد المركزية الأوروبية من داخلها، وتقدّمت بذلك خطوة واسعة نحو فضاء عالمي يعترف بالتعدد.

لكن لا يمكننا تجاهل النسخة اليمينية من التخلي عن المركزية الأوروبية، النسخة التي تعترف بالاختلاف الثقافي لتبني عليه انغلاقاً أوروبياً، ولتعزز به تنميطاً ثقافياً، ثم تلحق بهما تفاوتاً حقوقياً. وظيفة الليبرالية الفكرية هنا تبدو كأنها نتاج نزوع الهيمنة والتوسع، وعند انقضائه بحكم انحسار مكانة أوروبا لم يعد لها لزوم. وقد تبدو، من زاوية الحرب الباردة، كأنها كانت موجهة أصلاً إلى أوروبا الشرقية بوصفها عمقاً أوروبياً، وعندما تخلصت من الهيمنة السوفياتية كفّ أصحابها عن ادعاءاتهم بخصوص كونها قيماً كونية. قد تفيد الإشارة هنا إلى أن «أوروبا موحدة» فقدت أيضاً الكثير من جاذبيتها، والوافدون الجدد إلى الاتحاد أضافوا متاعب فوق متاعب الفقراء القدامى، وفي المحصلة لم يبرهن الاتحاد الأوروبي على تحوله إلى قوة عالمية ريادية.

إن التصورات القيامية لتجد متسعاً لها إذا تحدثنا عن أنظمة ذات باع ديموقراطي مديد، بما يعنيه التوصيف من تصالح السلطة اجتماعياً وانتفاء مبرر الثورات. نهاية التاريخ بهذا المعنى حدثت أوروبياً، والدلالة على حدوثها عدم انتظار حدث استراتيجي، وانعدام الاستراتيجيات الكبرى التي تهدف إلى خلق تحول مفصلي. إلا أن ما يعيب هذه النهاية وقوعها ضمن عالم لم يصل إليها بعد، فلا الغرب الأميركي تخلى عن طموحاته الكونية، ولا الجار الروسي الصاعد يعِد إلا بالمزيد من إقلاق راحة الأوروبيين.

قد تنجح السياسات الأوروبية موقتاً في شراء الاستقرار ضمن محيط مضطرب، أو هذا على الأقل ما تهدف إليه المواقف الأوروبيـــة الحـــالية من العديد من القضايا. فالسياسة الأوروبية المشـــتركة لا تطمح اليوم إلى أكثر من إيقاف الصراع في الـــشرق الأوسط، بصرف النظر عن ماهية القوى المستفيدة أو القادرة على الضبط، يتكامل معها الموقف من الملف النووي الإيراني تحت غطاء المنفعة الاقتصادية، فلا تبدو الأخيرة أكثر من ذريعة للتملص من مواجهة غير مرغوبة. وفي الشرق الأقصى، حاول ماكرون شق طريق أوروبي مستقل، إلا أن تلك المنطقة غير ممهدة لزخم أوروبي يجاري الأسبقية الأميركية.

إذا تقصّينا ما هو بارز في الحالة الأوروبية، ثمة إغراء يساور الكثيرين حول نهاية الحضارة الغربية في معقلها الفكري. المتحفزون في انتظار النهاية كثرٌ، وبتسرّع لا يتلاءم مع واقع أوروبي متململ. ما حدث قبل خمسين عاماً يمنح أملاً مغايراً لفكرة النهاية، وإذا كان مؤكداً ألا يسير التاريخ دائماً إلى الأمام فذلك يتعلق أيضاً بمن يملكون موهبة تسهيل انحداره.