التاريخ: أيار ٢٠, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
انتخابات الكومبارس مقابل سياسة الهامش في لبنان - سامر فرنجيّة
تبــدو النتــائج الانـتخابية لـــمرشــحــــي «المجــتمـــع المدني» في لبنان مشجعة، بخاصة عندما تقارن بالخيبة العامة من الاستحقاق النيابي. فلأول مرة في تاريخ لبنان الانتخابي، تتمكن قوى غير طائفية أو حزبية أو تقليدية من إيصال نائبة إلى البرلمان، محمولة بخطابات تحررية ومدعومة من مجموعات مدنية. وعلى رغم بعض الاعتراضات من هنا أوهناك على النائبة المدنية وحزبها المستجدّ، فهناك امرأة خرقت جدار المجلس وأخرى كادت أن تخرقه في مشهد يبدو وكأنه لا ينتمي إلى زمن الانتخابات الأخيرة.

بيد أن هذا الإنجاز الذي يراد منه أن يشكّل نقطة تراكم يحتاج إلى بعض من التدقيق. فالخرق حصل في دائرة بيروت الأولى، وهي الدائرة ذات الحاصل الانتخابي الأدنى، إذ لا يحتاج النجاح إلى أكثر من بضعة آلاف صوت. أما في باقي الدوائر الانتخابية، فلم تتعدَّ نسب الاقتراع لكافة قوى الاعتراض الـ٥ بالمئة. وهذه الخيبة تطاول نتائج العاصمة بيروت، حيث انخفض الاقتراع للقوى المدنية عما كان عليه منذ بضع سنوات عندما خاضت مجموعة «بيروت مدينتي» الاستحقاق البلدي، وهي التجربة التي شكلت النموذج للقوى المدنية اليوم. ويبدو الانخفاض أخطر، عندما نقارنه بنسب الاقتراع لخصوم الثنائي الشيعي في الانتخابات التي كانت تجرى في التسعينات تحت الوصاية السورية. سيأتي رد البعض على هذه المقارنات «كمياَ»، مطمئنا بأن هناك عملية تراكمية تحوّل أي نتيجة، مهما كانت ضئيلة، إلى مدخل لنجاح مستقبلي مضمون. فالفشل لا ينتمي إلى قاموس الناشطين، الذين سيسارعون إلى الدعوات لتوحيد الجهود وتنظيم الأحزاب وترويج البرامج لعلّ العملية التراكمية تحوّل الـ٥ بالمئة إلى ٥٠ بالمئة. أما أي اعتراض، فمواجهته سهلة بسؤال «ما العمل إذاً؟».

وهذا المنطق «الكمي»، والمعزز بإغراءات النجاح، هو الذي طغى على حملات «المجتمع المدني» التي استعجلت التحالفات والبرامج والحملات لكون النصر مضمونا من خلال تقسيم القانون الانتخابي. وأهم ما تمت التضحية به بحثا عن مكاسب عددية كان معركة الرأي العام، مع اكتفاء أكثرية قوى الاعتراض بخطاب فضفاض عن مناهضة الفساد مدعوم بضرورة التجديد.

بيد أن هذا المنطق العددي الذي لم يؤمّن أكثر من ٥ بالمئة من الأصوات قد لا يشكل المدخل للعملية التراكمية المرجوة. فهو مرهون بقانون الانتخابات المقبل، والأهم من ذلك، مبني على فرضية أن «المجتمع المدني» وشبّانه يشكلون وجهة التاريخ التي لا مفرّ منها، لولا بعض العقبات التنظيمية. فإذا كانت، من غير شكّ، هناك شريحة كبيرة وربّما متزايدة من اللبنانيين تعيش حالة انفصال عن نظامها السياسي وممثليه وثقافته، فما لا شكّ فيه أيضا أن تلك الشريحة ما زالت تشكّل أقلية، خاصة عندما تقارن بآلاف الشبان الذين اجتاحوا شوارع بيروت على درجاتهم النارية معلنين انتماءهم إلى هذا النظام المتجدّد.

تجاهل هذه المفارقة قد يكون سبب الصورة المغلوطة عن النفس لدى بعض مرشحي «المجتمع المدني»، والذين فهموا هامشيتهم كضمانة لطليعيتهم، وبالتالي لأحقية تمثيلهم لمستقبل البلاد وتلخيصهم لـ «شعوب شعب لبنان» بشعبهم الخاص. فالحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد منذ الحراك المدني كانت «هامشية»، وهذا كان مصدر قوتها وقدرتها على التشكيك والتخريب والتغيير في الأمر الواقع. أما تطويعها، فكان دائما مبنيا على فرضية أن للهامشية قدرة على أن تكون بديلاً. فما لم يلحظه طليعي «المجتمع المدني» هو أنه لولا الهرطقات الطائفية للقانون الحالي، لم يكن من الممكن إيصال نائب واحد إلى المجلس. بهذا المعنى، النجاح لم يأت، على رغم القانون الطائفي بل بسببه.

لقد اعتبر البعض أن عملية تلخيص «الشعب» بممثلين طليعيين لا يحتاج إلا لفعل القول لكي يصبح حقيقة، وهي «إرادوية» انطلقت من فرضية، هي أيضا مغلوطة، مفادها أن الانتخابات آتية على ظهر عملية تراكمية طويلة الأمد. وما فاقم هذه النظرة المغلوطة للعمل السياسي كان الخيال المحدود لـ «مجتمع مدني» «ما بعد أيديولوجي»، لم يقدّم غير خطاب فضفاض عن مناهضة الفساد لإقناع الناخبين.

هذا الاستخفاف السياسي لم يكن مقنعاً، بل أسوأ من ذلك، أدى إلى انحسار المنافسة مع ما يسمى في أدبيات المجتمع المدني «السلطة»، على أرضية خطابية واحدة. فلم يكن هناك مشروعان سياسيان يتنافسان، بل رؤية سياسية واحدة يتنافس عليها من فشل في تطبيقها ومن يدعي أنّه مخوّل تطبيقها. هذا لا يعني أنّه لم يكن هناك نقاط خلاف أو بعض المرشحين الذين طرحوا أفكارا تخرج عن المعتاد، ولكن المشروع السياسي العام لم يخرج عن الأدبيات القانونية حول تطبيق الدستور. بهذا المعنى، كانت الانتخابات ثورة لخبراء الأمم المتحدة على مسؤوليهم الأميين، ولم تقدّم للناخبين غير خيال البرامج الإصلاحية.

النزيه ليس نزيها لمجرّد أنّه لم يسرق بعد، كما أن البديل ليس بديلا لمجرّد كونه مختلفا، والهامشي ليس طليعيا لكون خصومه رجعيين. فخوض المعركة الانتخابية من دون الاكتراث بمعركة الرأي العام لخص السياسة إلى حركة أخلاقوية، أقرب إلى عملية تنفيس لمجتمع مأزوم. بيد أن الأزمة لا تطال فقط «السلطة»، بل أصبحت تضم أيضا نقد النظام، وهذا ما عبرّ عنه كل من رفض المشاركة في الانتخابات. فلا الغطاء اليساري للقوى الاحتجاجية أو الخطاب القانوني نجحا في تقديم الهندسة السياسية لهذا الخطاب الاعتراضي أو في رسم معالم الهيمنة المضادة.

إلى جانب الخطاب الفضفاض، ظهرت الأزمة أيضاً في التموضع السياسي وفهم ممثلي المجتمع المدني لدورهم. فبدل أن تقدّم القوى المعترضة نفسها كبديل في الخطاب السياسي يمكن لقوى سياسية واجتماعية أن تلتقي من حوله، نظرت لذاتها كبديل عن القوى السياسية، لا تحتاج أن تتحرك حسب تضاريس المجتمع اللبناني والسياسي. وهذا ما يخرج عن تاريخ حركات «المجتمع المدني» التي كانت دائما تنظر إلى هذه المساحة المدنية كمختبر لابتكار أفكار سياسية ونقطة التقاء لقوى سياسية واجتماعية. فالهامشي يدرك أن قدرته على الفعل السياسي مشروطة بهامشيته. والمفارقة أن حتمية الخسارة الانتخابية سمحت في الماضي لحيوية اجتماعية لم يقض عليها اليوم إلا إغراء الفوز. فانتهت الانتخابات، وعادت الأمور إلى طبيعتها، ووجد أنفسهم المدنيون كالعادة معزولين، يعيدون حساب الأصوات لعلّه يمكن مراكمة الـ٥ بالمئة لكي تصبح يوما ما 50 بالمئة. بهذا المعنى، يمكن اعتبار المحطة الانتخابية الأخيرة نتيجة، ليس لتراكمات السنوات الماضية، بل بالعكس لأزمة سياسية في الخطاب المعارض. ولهذه الأزمة عنوان واضح لمن يرفض التسطيح، وهو حزب الله: ليس كمنظومة سلاح فحسب، ولكن كمدخل لإعادة التفكير بالخطاب والتموضع السياسيين. فلم يكن مطلوبا من قوى هامشية أن تقدّم حلولاً لمشكلة حزب الله، ولم يكن ضروريا صرف الوقت لصياغة مسودات لاستراتيجيات دفاعية فارغة. بيد أن ما كان مطلوبا هو الإقرار بأن مسألة حزب الله هي المسألة المحرّكة للسياسة، والموقف منها هو الخريطة التي يجب التموضع من حولها، مع السؤال المحوري: «كيف نعيد ابتكار سياسة اعتراضية في دولة حزب الله؟»، مع ما تحمله هذه الدولة من معان مختلفة.

أما الخيار الآخر، أي تسطيح السياسة وصياغة موقف تقني عن السلاح من هنا أو التأكيد على سيادة الدولة من هناك، فهذا له موقع محدّد على الخارطة، وعنوانه «كومبارس حزب الله»، أي من يعتقدون أنّ بإمكانهم أن يؤمّنوا بعض الحقوق برضا الحزب. أما لمن لا يعتقد ذلك، أو لا يقبل بالكلفة السياسية أو الأخلاقية لخيار كهذا، فهناك سؤال أولي وهو دولة «حزب الله» ودور الهامش فيها.

لقد انتهى معارضو «حزب الله» القدامى لكونهم قُتِلوا أولاً، ولكنْ لكونهم اعتبروا «حـــزب الله» الجواب الوحيد عن كافة الأسئلة التي تواجه السياسة اللبنانية. فتحققت مخاوفهم ووجدوا أنفسهم بلا أسئلة ومع جواب واحد، في موقع يشبه شيئاً من الممانعة المعاكسة. البديل ليس أن نتحوّل إلى كومبارس في دولة «حزب الله»، بل أن نطرح «حزب الله»، ليس كجواب، بل كسؤال يواجه أي كمشروع سياسي مستقبلي. وإن كان هناك دور لـ «المجتمع المدني»، فهو في ابتكار أجوبة عن هذا السؤال من موقعه الهامشي. هذا إذا كنا لا نريد أن نكون مجرّد ورثة لأجيال من «الكومبارس التقدميين».