| | التاريخ: أيار ١٧, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | هل هو موسم قطاف الممانعة؟ - عمر قدور | تتجاهل طهران الإذلال المستمر جراء القصف الإسرائيلي المتواتر لمواقعها في سورية، وتترك لتابعها المحلي الإعلان عن حق الرد في الزمان والمكان المناسبين، الإعلان الذي لم يعد يعقب كل غارة لأنه سيكون بمثابة الاعتراف بها والانصياع من دون رد فعلي. التصدي، في الغارات الأخيرة، لبعض الصواريخ الإسرائيلية يعكس الفجوة التقنية بين الطرفين ما دامت الغارات تحقق أهدافها، وفقط بوسع أكاذيب الممانعة تصويره كفرض لقواعد اشتباك جديدة، من دون توضيح ما كانت تعنيه القواعد القديمة التي لا تُطلق فيها الدفاعات الجوية لاعتراض الصواريخ المهاجمة. إذاً، لا تريد طهران الانجرار إلى حرب مرغوبة إسرائيلياً، بينما الاستعراض الإسرائيلي يفسد عليها تبجح قادتها بالسيطرة على أربع عواصم عربية. الفجوة العسكرية التي ترجّح القوة الإسرائيلية ليست وحدها السبب، وقد سبق لحزب الله أن دخل معركة بالوكالة ولم تكن موازين القوى مختلفة. الإشارة إلى مشكلات نتانياهو مع القضاء وتلهفه إلى حرب خارجية، أو تركيبة اليمين الحاكمة، لا تكفي أيضاً لشرح الشهية الإسرائيلية للحرب ما لم يُنظر جيداً إلى الوضع الذي وصل إليه محور الممانعة.
وجه واحد من مآل محور الممانعة خسارته شعبيته لدى شرائح عربية، كانت ترى فيه مشروع مقاومة، ولا تتوقف عند البنية المذهبية التي تحكمه. لا شك في أن حرب هذا الحلف على السوريين كان لها فضل كبير في كشف أكاذيب «الطريق إلى القدس»، حيث اتضح أنه يمر ويتوقف فوق أجسادهم. إلا أن كشف الوجه الحقيقي لأهداف الحلف لا ينفصل عن انكشاف أدواته. فالميليشيات الشيعية التي خاضت الحرب بإشراف مباشر من قادة حرس الثورة أماطت اللثام عن الصندوق الأسود للميليشيات الشيعية. من الحشد الشعبي العراقي إلى الحوثيين وصولاً إلى حزب الله الذي تخلى عن تقيته السابقة، صار متاحاً لمن يشاء رؤية ما يعنيه الإرهاب الشيعي، وصار متاحاً لمن يشاء مقارنته مع نظيره السني ورؤية نقاط التشابه التي تفوق نقاط الاختلاف وتتفوق عليها.
بعض هذه التفاصيل لم يكن بالطبع غائباً عن مراكز القرار الدولي والإقليمي، إلا أن استعراض القوة الإيراني كشف كامل المخزون الاستراتيجي لميليشياته، والاستخدام المباشر كشف وجهها الأقبح وتعارضها مع مشروع استقرار تطمح إليه مراكز القرار. في الأصل كانت المفاضلة الدولية تنص على القبول بإرهاب شيعي منضبط بمرجعيته، بالمقارنة مع إرهاب عدمي لا يملك مرجعية تستطيع ضبطه ويمكن التفاوض معها. هذا واحد من أسباب تخوف الغرب من العمليات الإرهابية «السنية»، بينما طوي ملف عمليات إرهابية شيعية بسبب وضعها ضمن المواجهة بين طهران والغرب، أو بين طهران وتل أبيب، أي ضمن إطار سياسي مؤقت.
يتفاخر قادة إيران بقوتهم العسكرية وبحنكتهم السياسية اللتين فرضتا على الغرب تعاملاً «محترماً» معهم، في حين يرى بعض خصوم محور الممانعة أن الصعود الإيراني لم يكن ليحدث لولا الرعاية الأميركية تحديداً، وحتى وجود حزب الله في الجنوب يشكّل ضمانة أمنية بالمقارنة مع الفوضى المحتملة. بتنحية فرضية التآمر الأميركي على عرب المنطقة وسنتها، يمكن استرجاع تواتر السياسات الأميركية بعد الحرب الباردة، بين النزعة التدخلية ونزعة الانكفاء، وفي الأخيرة التي تعقب الأولى كانت ثمة حاجة إلى قوة موجودة على الأرض تملأ الفراغ الذي يخلّفه الانكفاء الأميركي، ذلك ما حدث في العراق مثلاً.
لقد بدا الأمر مشابهاً أيضاً في المثال السوري، فواشنطن في عهد أوباما كانت تتبع سياسة الانكفاء عن المنطقة ككل ولم تكن في وارد التورط على الطريقة العراقية أو الأفغانية، ومن وجهة نظر الإدارة الأميركية حينها لا بأس بنشوب حرب بين المتطرفين السنة والشيعة تنهكهما معاً. بالتأكيد لعب تلهف أوباما إلى إنجاز الاتفاق النووي لمصلحة طهران، ولهذا السبب عدّته الأخير انتصاراً كبيراً لها، فهو سمح بتضخم طموحاتها الإقليمية مع فك العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية. إلا أن سياسة أوباما لم تكن على نحو من التبسيط يتعاون مع النفوذ الإيراني كما حدث في العراق، وإلا لما وصل الأمر إلى طلب المؤازرة الروسية.
الحق أن التدخل الروسي قلب المعادلات السابقة، ورغم كل ما يمكن قوله عن علاقات أميركية- روسية متأزمة يبقى الوجود الروسي حلاً أفضل لسد الفراغ الناجم عن الانكفاء الأميركي، والانكفاء الغربي عموماً. مع الوجود الروسي تنتفي المفاضلة السابقة بين إرهابين شيعي وسني، وفيه ضمانة أفضل للجمهما معاً، والتخلص من تناحرهما. من هنا انتعشت التحليلات حول ما هو مطلوب من موسكو، لجهة استبعاد طهران عن التحكم بتنظيم الأسد، والمطروح لم يكن في أي وقت الانقضاض على السياسة السابقة برمتها، بل المطلوب من إيران الاكتفاء بنفوذها في العراق حيث تملك قاعدة شعبية له.
لقد كانت هناك فرصة قبل التدخل الروسي، لو امتلك حكم الملالي الحنكة المدّعاة، على قاعدة التخلي عن الأسد واستبداله بشخص آخر يحظى بقبول إيراني مع تقاسم النفوذ. الجشع إلى المزيد من السيطرة منع تسوية مشابهة في اليمن، وكان محتماً لمواجهة كسر العظم ألا تنتهي باكتساح المنطقة إيرانياً، فذلك دونه العديد من صراعات النفوذ الإقليمية والدولية. على عكس ما يشيعه محور الممانعة، يظهر اعتماده في هذا السياق على سياسة أميركية يظنها مستدامة سمحت له بملء الفراغ، وأيضاً على سياسة إسرائيلية يظنها مستدامة تسمح له القيام بدور العدو والشرطي على الحدود معاً، بينما كانت تل أبيب تنجز قبتها الحديدية تحسباً لمثل هذه اللحظة.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، محور الممانعة جاهز للقطاف. على الصعيد الشعبي في عموم المنطقة، الانتصار الوحيد الذي حققه أخذ مكانة العدو الوجودي من إسرائيل، بينما الميليشيات الشيعية ومقدرات الحرس الثوري تحت وطأة حَرْبي استنزاف في سورية واليمن. ما يمدّ في عمر المحور عدم وجود رغبة أميركية أو إسرائيلية في إشعال حرب ضخمة، والاقتصار على ضرب الأذرع الإيرانية في المنطقة مع حصار المركز اقتصادياً وتقنياً. هذه السياسة تعني تخيير طهران، وفق قاموسها المحبب، بين نصر إلهي جزئي أو نصر أقسى وأمرّ. استهلاك الوقت في انتظار مجيء أوباما جديد وصفة ثالثة، لو أن الآخرين ينتظرون أيضاً. | |
|