| | التاريخ: أيار ٥, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | محمود عبّاس وهذا الخطاب! - حازم صاغية | في خطابه في المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، دافع الرئيس محمود عبّاس عن قضيّة الفلسطينيّين وعن حقوقهم التي لا يُمارى فيها. برهن كم أنّ «الحلول» المعروضة عليهم منافقة وعديمة العدل والرحمة. أكّد، مُحقّاً، حجم التجاهل الدوليّ للعدالة حين يتعلّق الأمر بهم وبإسرائيل. صوّر قسوة القمع الإسرائيليّ الذي لا يستثني الأطفال.
لكنّ عبّاس صحّ فيه القول الذي أصبح كليشيهاً: محامٍ سيّئ لقضيّة جيّدة. خطابه المطوّل، من دون أن يحمل الطول إضافات، بدّد جهوداً فلسطينيّة ترجع إلى عشرات السنين في القطع مع الوعي اللاساميّ بما فيه من عنصريّة وخرافيّة وجهل. والجهل، مثل الصبر، له حدود. لكنّ الرئيس الفلسطينيّ تجاوز الحدود كلّها. لقد صار جوزيف ستالين «مؤرّخاً يهوديّاً»، والعياذ بالله، ونُقل التأويل الماركسيّ للمسألة اليهوديّة (منسوباً إلى ابراهام ليون واسحق دويتشر) بطريقة فظّة ومبتذلة (علماً أنّ هذا التأويل الذي ساوى بين اليهود والرأسماليّة حمل هو الآخر بذرة لاساميّة). هكذا عزف عبّاس مجدّداً معزوفة الربا والمصارف الكريهة، وهرف بتاريخ اليهود الأشكناز اعتماداً على كتب تقيّأتها المكتبات، وأنكر أيّة مذبحة حلّت باليهود في العالم العربيّ، وإن كان صحيحاً أنّ هذه المذابح أقلّ وأصغر بلا قياس من مثيلتها الأوروبيّة.
كلّ هذا وغيره في خطاب واحد، خطابٍ لم يكن بنيامين نتانياهو يحلم بمثله. فهو يعزّز أسوأ الحجج الإسرائيليّة، ويرفع المسؤوليّة، في رفض حلّ الدولتين، عن الاستيطان اليهوديّ، ويتيح القول إنّ عبّاس هو الذي يغرف من ميثاق «حماس» السيّئ الذكر، والذي أدخلت عليه «حماس» نفسها، في العام الماضي، بعض التلطيف. هذا فضلاً عن التذكير بأطروحة عبّاس القديمة في موسكو لاستنتاج أنّ الرجل لا يزال يقف حيث كان، علماً أنّ ثمّة تقدّماً لا يُنكَر كان قد أصاب وعي عبّاس في تلك السنوات الفاصلة، ما دلّ عليه أكثر من رأي وموقف.
ثمّ، وبعد كلّ حساب، لماذا أصلاً هذا الإصرار على «الموضوع التاريخيّ» منذ القرن الحادي عشر حتى الهولوكوست؟ وعلى تقديم هذه «الرواية الفلسطينيّة» البائسة؟ وكيف بعد ذاك يُحمل على محمل الجدّ كلّ كلامه عن «المقاومة الشعبيّة السلميّة» و «ثقافة السلام»
و«التعاون مع أنصار السلام في إسرائيل»؟
أمّا العلاقة المديدة المضطربة بين ممثّلي القضيّة الفلسطينيّة والمعرفة فتبقى شيئاً مقلقاً. فعلى رأس الشعب الذي يملك أحد أعلى معدّلات التعليم في العالم العربيّ، تقف قيادة قادرة على ارتكاب هذه الأخطاء كلّها، وارثةً قيادة ياسر عرفات الذي كان ملكاً مُتوّجاً للخطأ. وفي موازاة تعقّد وصعوبة بالغين يحفّان بالموضوع الفلسطينيّ، يُصاب العقل السياسيّ الفلسطينيّ الحاكم، على اختلاف تنويعاته، بالجدب والتكرار الميّت. بالعجز عن إتيان فكرة مبدعة واحدة.
بيد أنّ مسألة المعرفة والإبداع ليست معرفيّة في النهاية. إنّها تعبير من ألف تعبير عن طريقة اشتغال السلطة غير المعنيّة بما يحصل في مجتمعها. غير المعنيّة بأن تعكس ما يستجدّ في الصلب الاجتماعيّ. غير المعنيّة بأن تنقل الكفاءات والمعارف والتحوّلات التي تعصف بالمجتمع الفلسطينيّ. وهذا إنّما يرسم نظام عبّاس نظاماً آخر من أنظمة الاستبداد في العالم العربيّ. ولأنّه كذلك، لم يجد الرئيس الفلسطينيّ في «الربيع العربيّ» سوى أنّه «أكذوبة اخترعتها أميركا»، وهي العبارة التي تلاها تصفيق ملحوظ من أعضاء مجلسه الوطنيّ.
والحال أنّ ازدهار مصنع الأفكار الرديئة بعد هزيمة «الربيع العربيّ» واحدة من نتائج تلك الهزيمة. أمّا سياسات إسرائيل في الاستيطان والصلف فليست قليلة الإسهام في تحفيز الانحطاط هذا، وأحد تجلّياته خطاب عبّاس.
لقد حكم بضعةُ ضبّاط عدداً من الدول العربيّة باسم «شرعيّة» أتاحتها انقلاباتهم. وها هو عبّاس، بعد عرفات، يحكم باسم «شرعيّة» أتاحتها ثورته. أمّا النتائج فلا تختلف إلّا قليلاً، فيما يتأكّد كم أنّ في وسع المظلوم أن يظلم قضيّته تماماً كما يفعل الظالم. | |
|