| | التاريخ: أيار ١, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة النهار اللبنانية | | "الأخبار الكاذبة" والتهديد الترامبي للديموقراطية - إيشان ثارور | عندما ألقى الرئيس [الأميركي دونالد ترامب كلمة أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، أثار انتقاده للإعلام "البغيض" و"الشرير" و"الزائف" همهمات وصيحات استهجان مسموعة – حتى من قِبَل بعض المراسلين غير الأميركيين في القاعة. ربما كانت تجربة جديدة بالنسبة إليهم، لكن الصحافيين في الولايات المتحدة باتوا معتادين، بطريقة محبِطة إلى حد ما، على خطابات ترامب التهجّمية. لم يكن الحال هكذا على الدوام.
لكن ترامب استحوذ، في مطلع ولايته الرئاسية، على عبارة "الأخبار الكاذبة"، وحوّلها هراوةً لا يكف عن استخدامها. واظب على التغريد ضد إعلام "الأخبار الكاذبة"، عندما يتحلّى هذا الإعلام بالجرأة لتقصّي الحقائق في مجموعة كبيرة من مزاعمه المغلوطة؛ ووزّع جوائز "الأخبار الكاذبة" على وسائل الإعلام التي يعتبر أن تغطيتها للأخبار منحازة جداً ضده؛ ووقف متفرّجاً فيما راحت سلسلة من السلطويين والأقوياء في الخارج تُقلّد خطابه، متذرِّعةً بـ"الأخبار الكاذبة" للرد على تقارير موثَّقة عن التطهير العرقي والتعذيب وجرائم الحرب. غير أن دراسة جديدة تُعيد شيئاً من الوضوح إلى ما تجسّده "الأخبار الكاذبة" في الواقع. لقد أمضى باحثون في معهد الإنترنت في جامعة أوكسفورد 18 شهراً في تحديد 91 مصدراً للبروباغندا من مختلف الأطياف السياسية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي نشرت أخباراً اعتبرها الباحثون "أخباراً غير مأمونة" (junk news) تتعمّد التضليل أو الظهور في صورة التقارير الموثوقة. ثم أجروا تحليلاً عميقاً للنشاط عبر مواقع التواصل الاجتماعي على امتداد ثلاثة أشهر في الولايات المتحدة، ودرسوا في هذا الإطار 13477 مستخدماً عبر "تويتر"، و47719 صفحة عامة عبر "فايسبوك"، قاموا باستهلاك هذه الأخبار الكاذبة أو تشارُكها بين تشرين الثاني 2017 وكانون الثاني 2018. وفي هذا الإطار، وجدوا خللاً عميقاً في التوازن.
فقد جاء في بيان صحافي صادر عن المعهد: "أظهرت التحاليل أن توزيع مضمون الأخبار غير المأمونة حصل بطريقة متفاوتة عبر مختلف الأطياف الأيديولوجية. على موقع تويتر، تشاركت شبكة من أنصار ترامب المجموعة الأوسع من مصادر الأخبار غير المأمونة، واستحوذت على النسبة الأعلى من مشاركة الأخبار غير المأمونة في العيّنة، وحلّت بعدها بفارق ضئيل وسائل الإعلام المحافظة. وعلى موقع فايسبوك، سجّلت الصفحات اليمينية المتشدّدة جداً النسبة الأعلى من مشاركة الأخبار غير المأمونة بالمقارنة مع جميع فئات الجماهير الأخرى مجتمعة".
غالب الظن أن المنتقدين اليمينيين لوسائل الإعلام التقليدية في الولايات المتحدة سيبدون امتعاضهم من هذه الاستنتاجات، ويشيرون إلى ما يعتبرونه هستيريا مناهضة لترامب في وسائل الإعلام التقليدية أو الليبرالية. غير أن الدراسة تُظهر أن النسب ليست متكافئة.
قالت الباحثة في جامعة أوكسفورد، ليزا ماريا نودرت، في تصريح: "لقد وجدنا أن المشهد السياسي يشهد انقساماً حاداً عبر الخطوط الأيديولوجية في ما يتعلق بهوية الجهات التي تقوم بمشاركة الأخبار غير المأمونة"، مضيفة: "استنتجنا أن أنصار ترامب، والمحافظين المتشدّدين، والمجموعات اليمينية يقومون بتداول أخبار غير مأمونة أكثر من المجموعات الأخرى".
لا تقتصر الظاهرة على الولايات المتحدة. في أواخر العام الماضي، أنشأ فريقٌ من الباحثين الألمان في جامعة هوهنهايم موقعاً يمينياً متشدّداً للأخبار الكاذبة، قام بتشارُك أخبار ملفّقة ومثيرة عن اللاجئين والمهاجرين عبر "فايسبوك". وصلت هذه الأخبار إلى الآلاف من أنصار اليمين المتشدد في ألمانيا، والذي أعاد عددٌ كبير منهم تداولها. وقد عكسَ ذلك استعداد الأشخاص في غرف الصدى الأيديولوجية لتصديق ما يرغبون في تصديقه بدلاً من التدقيق في المصادر أو تقويمها. وكشفَ هذا الأمر أيضاً عن مشكلة في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل "فايسبوك" و"تويتر"، والتي تهجّم عليها النقّاد بشدّة معتبرين أنها لا تقوم بخطوات كافية لكبح آفة المضمون المزوَّر والحسابات الآلية، أو ما يُسمّى بـ"البوتات"، التي تُضخّم الأخبار الكاذبة. قال وولفغانغ شويغر، الباحث الأساسي في المشروع، لـ"هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي): "كان أمراً صاعقاً أنه لم يتم مطلقاً التشكيك في بروفيل الموقع عبر فايسبوك – لا من قبل إدارة فايسبوك ولا من المستخدمين الآخرين". لكن في حين أن مواقع التواصل الاجتماعي قد تساهم في تأجيج الانقسامات الفئوية، تعكس لحظة "الأخبار الكاذبة" استقطاباً أعمق ويزداد حدّة في الولايات المتحدة وبلدان أخرى، وهو يعود إلى ما قبل الصعود السياسي لترامب أو حتى إلى ما قبل الحقبة التي تحوّلت معها مواقع التواصل الاجتماعي أداةً أساسية لنقل المعلومات. كتب مات إيغليسياس من الموقع الإخباري "فوكس" في مقالٍ متشائم عن أزمة محتملة تلوح في الأفق في الديموقراطية الأميركية، أن المنظومة السياسية في البلاد تتعرّض في شكل أساسي للإضعاف بسبب الانقسامات الأيديولوجية التي تزداد حدة. لقد زادت هذه الفجوات من صعوبة التوصّل إلى تسوية، وشجّعت الرؤساء على توسيع سلطاتهم التنفيذية.
أضاف إيغليسياس: "خلال الأعوام الـ25 الماضية، وضعَ ذلك أميركا على مسارٍ من الشلل والأزمات – من خلال تعطيل الحكومة، والتحرّكات لعزل الرؤساء، وأزمات سقف الديون، والكباش الدستوري"، مشيراً إلى أن "الناخبين، وهذا أمر مفهوم، يُعبّرون بصورة متزايدة عن امتعاضهم من النتائج، كما أن الثقة بالمؤسسات الأميركية متدنّية في شكل عام وتسلك مساراً انحدارياً. لكن التململ، وبدلاً من أن يقود إلى التغيير، أسفر عن تقلّبات انتخابية جامحة تزيد من حدّة الشعور بالأزمة الدائمة".
في هذه الأجواء، يشكّل انتشار "الأخبار الكاذبة" – والمجادلات بهذا الشأن – مؤشراً عن تدهور سياسي خطير. وهو، في حالة ترامب، امتدادٌ للذهنية الديماغوجية نفسها التي جعلته ينعت الديموقراطيين الذين لم يصفّقوا خلال إلقائه خطابه بـ"غير الأميركيين" و"الخونة". يشير المحللون إلى أن مثل هذه التدهورات أدّت إلى انقلابات وفوضى في بلدان متباينة إلى حد كبير مثل تشيلي وتركيا.
كتب الاختصاصيان في العلوم السياسية في جامعة هارفرد، ستيفن لفيتكسي ودانيال زيبلات، مؤلّفا الكتاب الجديد "كيف تموت الديموقراطيات" (How Democracies Die): "بعض الاستقطاب صحّي، وحتى ضروري، من أجل الديموقراطية. لكن الاستقطاب الشديد يمكن أن يؤدّي إلى القضاء عليها. عندما تنقسم المجتمعات إلى معسكرات تحزّبية ذات آراء شديدة الاختلاف، وعندما يُنظَر إلى تلك الاختلافات بأنها وجودية ويتعذّر التوفيق بينها، يمكن أن تتحوّل الخصومة السياسية كراهيةً تحزّبية". أضاف لفيتسكي وزيبلات: "يبدأ الأفرقاء بالنظر بعضهم إلى بعض ليس من منطلق الخصومة المشروعة، إنما بنظرة العداوة الخطيرة. ولا تعود الخسارة جزءاً مقبولاً من العملية السياسية، بل تتحوّل كارثة".
كاتب متخصص بالشؤون الخارجية في صحيفة "الواشنطن بوست"
ترجمة نسرين ناضر | |
|