| | التاريخ: نيسان ٢٧, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | لبنان: أزمة اللجوء والاستثناء الوهمي - ديمة كريّـم | نشأ جيلنا على فكرة لبنان الاستثناء. فمن تعدد طوائفه وانصهارها، إلى قرب بحره من جبله، إلى أعجوبة ثبات سعر صرف ليرته، إلى انتشار أدمغته في كل القارات... لبنان استثناء في الجوار العربي كما في كل العالم. لكنّ اللافت أن لبنان يبدو استثناء لا في ميزاته وحسب، بل في طبيعة مشكلاته أيضاً. فمن أزمة الكهرباء إلى أزمة النفايات إلى معضلة نظامه الطائفي، إلى تكوين اقتصاده، إلى قانون انتخابه... كلها حالات استثنائية يعجز العالم والعلم عن تفسيرها.
ولعلّ آخر صور هذه الحالة الاستثنائية هي «حسن استضافته» لمليون لاجئ سوري منذ بداية الثورة السورية في ٢٠١١.
يقال إنّ لبنان استثناء لأن ثلث سكانه من اللاجئين، وهذه أعلى نسبة في تاريخنا الحديث. وهو، على رغم خطورة هذا الواقع على وجوده وموارده وتركيبته الطائفية الحساسة وشبح الخوف من «طمع» اللاجئين بالتوطين، يستضيف اللاجئين بلياقات عالية ويقدم خدماته للعالم بأكمله.
لكن لنبحث وندقق قليلاً في هذا الاستثناء.
في الواقع، تتوالى أزمات اللجوء في ما يسمى «دول الجنوب»، وتتكاثر، وتتفاقم، حتّى وصلت أعداد اللاجئين إلى ٢٢٫٥ مليون لاجئ في ٢٠١٧. وبطبيعة الحال، دفعت الدول المجاورة الثمن الأكبر لأزمات اللجوء التي ولّدتها الحرب السورية وتفاقم أزمة أفغانستان وجنوب السودان. فقد نزح أكثر من 3.5 مليون لاجئ أفغاني إلى باكستان المجاورة منذ ١٩٩٠، وأكثر من ٣ ملايين لاجئ أفغاني إلى إيران في الجوار الآخر. ونزح اثر الإبادة الجماعية في رواندا في ١٩٩٤، أكثر من 1.4 مليون رواندي إلى الكونغو. أما في حرب الخليج عام ١٩٩١، فنزح أكثر من مليون عراقي إلى إيران المجاورة. وفي الأزمة الأخيرة في جنوب السودان، نزح مليون لاجئ إلى أوغندا في 2016-2017. فكما يبدو، تستضيف الدول المجاورة التي هي بطبيعة الحال نامية، أكثر من ٨٥ في المئة من اللاجئين في العالم، فيما نزح ١١ في المئة فقط من لاجئي العالم إلى دول العالم الأول أو دول غير مجاورة.
لذلك، يمكن القول إن لبنان ليس استثناءً باستضافته مليون لاجئ سوري في السنوات الست الأخيرة، بحكم جواره لسورية. ولكن ماذا عن نسبة اللاجئين ربطاً بعدد السكان؟ فلننظر إلى أرقام الأزمة السورية من زاوية أخرى.
بات أكثر من ١٢ مليون سوري (نصف الشعب السوري) نازحاً داخل سورية أو لاجئاً خارجها. وتبلغ حصّة لبنان حوالى 17 في المئة من إجمالي اللاجئين السوريين إلى دول الجوار، والبالغ عددهم 5 ملايين ونصف مليون لاجئ. وإذا ما قارنّا هذه النسبة مع أزمات لجوء أخرى، نجد أنّ كلّاً من باكستان وإيران تستضيف ما يقارب 50 في المئة من اللاجئين الأفغان منذ١٩٩٠، كما تستضيف أوغندا أكثر من ٧٠ في المئة من لاجئي جنوب السودان.
وبذلك، لا تبدو نسبة اللاجئين التي استضافها لبنان استثنائية. صحيح أنّ اللاجئين السوريين يشكلون حوالى ٢٠ في المئة (وليس ثلث) من سكّان لبنان نظراً لصغر مساحته، لكن إذا أخذنا المنطقة الشمالية في أوغندا مثلاً، والتي لا تزيد مساحتها على مساحة لبنان إلا بنسبة خمسين في المئة، نجد أنّ نسبة اللاجئين تفوق الـ35 في المئة من عدد السكان.
إضافة إلى ذلك، إذا اردنا قياس قدرة اقتصاد البلد المضيف على استيعاب اللاجئين، فإنّ المؤشر الأهم هو الناتج المحلي الإجمالي للفرد قياساً بعدد اللاجئين (على رغم التحفظات على هذا المؤشر لأنه لا يأخذ في الاعتبار اللامساواة في توزيع الثروة). فإذا ما نظرنا إلى هذا المقياس، تكون الكونغو البلد الأقل قدرة على استيعاب اللاجئين، تليها إثيوبيا وباكستان وأوغندا وحتى تركيا التي تسبق لبنان في هذا المضمار. لا يعني ذلك أن لبنان وموارده ليست تحت الضغط. لكن الاستثناء ليس موجوداً على مستوى التداعيات والنتائج، بل على مستوى الأسباب التي أدت إلى حالة اللجوء.
يكمن الاستثناء الحقيقي في عجزنا عن إدارة هذه الأزمة. فقد اكتفت الحكومات المتعاقبة منذ حكومة نجيب ميقاتي سنة ٢٠١٢ بـ «النأي بالنفس» سياسياً وحتى في التعامل مع بداية أزمة اللجوء، فنأت بنفسها عن وضع خطة استجابة سريعة وتعاملت معها بلامبالاة وإهمال على أنها أزمة عابرة. من ثم أتت الورقة السياسية الشاملة في حكومة الرئيس تمام سلام، والتي هدفت إلى تقليص عدد اللاجئين من خلال تجريدهم من وضعهم القانوني وتضييق الفرص وزيادة الصعوبات أمامهم. أما في عهد الرئيس سعد الحريري فجرى التركيز على خطاب سلبي نسب الإفلاس المالي الوشيك وأزمة الكهرباء وغياب فرص العمل وتدهور البنى التحتية إلى تداعيات الأزمة السورية على لبنان، ممّا يحتّم الحاجة تالياً إلى معجزة «سيدر» الأخيرة، وهذا على رغم أنّ أعداد اللاجئين السوريين تتناقص فيما أوضاعهم تزداد سوءاً.
هكذا يبدو الاستثناء الحقيقي هو في المضي قدماً بسياسات التضييق نفسها التي استخدمت ضد اللاجئين الفلسطينيين بحجة الحفاظ على حالة لبنان الاستثنائية الوهمية. وقد هدفت سياسات كهذه إلى تقليص أعداد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان إلى ما دون الـ200 ألف ونجحت في ذلك.
من اللافت أن بلداً مثل أوغندا وضع سياسات لإدارة الأزمة مبنية على احترام حقوق اللاجئين، من خلال إعطائهم حقوق التملك والعمل والتجول (من دون منح الجنسية) على رغم استمرار العوز والفقر والنقص في الإمكانات والخدمات. هذا بينما يفرح لبنان الرسمي بتهنئة المجتمع الدولي على حسن ضيافته ويشرع في توسيع ممارسة التضييق وإنكار الحقوق في محاولة لتقليص أعداد اللاجئين. فمنذ منع الفلسطينيين من التملك في 2002 وما يشبه إغلاق الحدود أمام السوريين في ٢٠١٥ وصعوبة تجديد إقاماتهم ومنعهم من التجول في بعض البلديات، تزيد معاناة اللاجئين وتدفع بهم إلى المغادرة، ولو كانت المغادرة قفزاً في المجهول. يبقى أن الاستثناء الأكثر تراجيدية، هو في حالة سورية. هذا لأن تاريخنا الحديث لم يسبق أن شهد تهجير نصف سكان بلد واحد. فسورية هي البلد الوحيد في العالم منذ الحرب العالمية الثانية الذي يعاني معظم شعبه النزوح القسري. الاستثناء، إذاً، هو في وحشية الحرب والتهجير الممنهج... فحسب.
* كاتبة لبنانية | |
|