التاريخ: نيسان ٢٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
حول قانون العدد وما يُرجّحه في انتخابات 2018 - أحمد بعلبكي
حصد الرئيس السيسي في إنتخابات الرئاسة على 97% من الناخبين الذين شكلوا 41% وفق ما أعلنته الصحف غداة إعلان النتائج من اجمالي المسجلين في مصر المئة مليون نسمة. ويكون قد حظي بتأييدات متنافرة لما يقارب 40% من الناخبين في ظل زغاريد ورقصات الناخبين الفقراء وغيرهم في صفوف بأحجام الفية امام اقلام الاقتراع يُسلِّفون أصواتهم للمُحيطين بها والبعيدين عنها. وذلك على أمل التنفع لاحقاً لقاء رقصهم وقد سهّل من الافراط السلوكي للراقصين أنهم غير مُحرجين أخلاقياً في وسط جمهرات لا تعنيهم شزرات العابرين بقربها. 

وفي المقابل، وتحضيراً لاستجلاب صفوف الناخبين اللبنانيين بأحجام مئوية او اصغر، تكاد تجمع مراصد الإعلام الإنتخابي في لبنان عام 2018 أن الثنائي الشيعي يقطع الأمل على خرق مقاعده لوائح مرشحيه وعلى تجرؤ المعارضين ممن يفضلون المقاطعة او الغياب ولا همّ لهم في ارضاء أحزاب الثنائي. وهم يرون في النزول إلى ساحات أقلام الإقتراع ما يمكن ان ينال المتنفعون من، وباسم المقاومة، من بطولاتها و يحصرون بأنفسهم ارصدة حماية الطائفة. ويستهونون احراج الناخبات وان كان ذلك لا يقوم على تكفير ولا على إكراه معلق أو مباشر. إلاّ أنه يقوم على ما نسميه في علم اجتماع التواصل التأثير المباشر للعلاقات التفاعلية الذي يمارسه المتنفذون المتنفعون على الأقارب والجيران ممن يضبطون معاني تعبيراتهم وتعليقاتهم على خطابات القادة ونشرات الأخبار. ويبقى "زأرهم" في عيون القرويين والأقارب مُريب لأن المعاشرة اليومية لا تُحتمل في الأرياف من غير ولاء أو تقية. وهذا هو حال التعاشر الملتبس اجمالاً في البيئات الضيقة والمتآلفة في حارات الضواحي الحاشدة. 

وتهتم بمثل هذا الاجتماع الضيق وخصائص العلاقات داخل تجمعاته دراسات تُسمى بالمورفولوجيا الاجتماعية المتفرعة عن علم اجتماع السكان. وفي تصانيف هذه الدراسات يجد عالم الاجتماع معاني انتشار السكنى والتجاور فيجد متعته في مقاربات وتفكيك بداهات عصبية التدين والولاء المتوارثين وخلفياتهما ومداوراتهما التي يقتضيها الازدواج المعلن والمضمر في كلام الأقارب والجيران مهما توسعت مورفولوجيا سكناهم وتباعدت معاشراتهم وتظاهروا بجديد اشكال التمدن والافقار والاغتناء. وفي لبنان يرسخ قانون الأحوال الشخصية من ضرورة هذا الازدواج في سلوكيات الناخبين خاصة حيث يفرض على النازحين خارج قراهم أن يصوتوا في مكان قيد نفوسهم في الأرياف حيث لا يعيشون ويعيشون في المدن وضواحيها حيث لا يتمثلون. وهكذا يتحكم القانون بالحراك المورفولوجي بين بيئات مختلفة في اجتماعها وعمرانها وعلاقاتها. وهو حراك اشتهر في الكتابة عن مورفولوجيته عالم الاجتماع الفرنسي الاحصائي موريس هاليبواكس (1877 - 1945 ) (...)

وفي بلادنا التي نُقلت من ولايات السلطنة العثمانية إلى دول صمّمها الإنتداب ووسع فيها أسس الحكم العصبوي المتوارث وأُسس الإستماته في تجدده شغلتني منذ أكثر من عشرين سنة فكرة تحرر الدولة من حكم العصبيات ومفاسدها. فتقدمت بمقترح مكتوب عنها إلى "الهيئة الوطنية لاقتراح مشروع قانون جديد للانتخابات النيابية" التي كان يرأسها المرحوم فؤاد بطرس المشرِّع والإصلاحي الشهابي والمكلف عام 2005 برئاسة الهيئة المُوقّرة التي انتهت حينذاك إلى مقترح يخلط اعتماد النظام الأكثري في الانتخاب لـ77 مقعداً واعتماد النظام النسبي في الانتخاب لـ51 مقعدا. وقد توزعت مواقف النواب حول هذا المشروع إلى ثلاث فئات منها الفئة الأكبر التي لا ترى ضرورة لأي تعديل على حد قول العضو الناشط في الهيئة حينذاك الاستاذ زياد بارود.

وكان من طرافة مقترحي المتواضع في حينه الذي طُلب إلي عرضه أمام "الهيئة الوطنية..." في السرايا الحكومية أنه قائم على فكرة التشريع بالسماح للنائب ان يترشح لاشغال المقعد في دائرته ولدورتين متواليتين حصراً على أن يُتاح له الترشح في دورة ثالثة، وأن يُحفظ له الحق، إذا ما حصل على الحجم الأعلى من أصوات ناخبي دائرته، بأن يحوز على مقعد في مجلس الشيوخ يعود من بعد انقضاء ولايته فيه للترشح للنيابة. ولاحظت ساعتذاك المعارضة لمقترحي على وجوه بعض أعضاء "الهيئة الوطنية". وكان تعليقهم يدور حول استعصاء قبول الزعامات النيابية المكرسة بهذا الإقتراح وهي متأصلة داخلياً في طائفيتها وفي ارتهاناتها خارجياً. وهؤلاء ممن صنعوا الدولة لتصنعهم (...).

وما زال هذا الفهم للدولة وفرص وصول المجتمعات إلى بنائها "المتوهم والمكين بالضرورة"، من أجل تقدم مدنية المجتمع، واستقر في تأملاتي تعذر بناء دولة الدستور والقانون مع تراجع قدرات الحكومات المتعاقبة على ممارسة السيادة السياسية على مناطق طوائفها وعلى ممارسة الحماية والسيادة على أسواقها ومواردها وعلى الاستقلال في إقرار سياساتها المالية والنقدية بعد أن تفاقمت عجوزاتها ومديونياتها. وبعد أن أصبحت رهينة تقارير من المراكز المالية والسياسية الدولية التي تقرر مدى ملاءتها أو إفلاسها. يتنازع كبار زعماء طوائفها وورثتهم وبديموقراطية لافتة توزع انفاقات مواردها والمغانم المترتبة على التهرب من تحصيل واردات حالتها العامة. وتتشرعن لهم حقوق شبكاتهم الطائفية على استحلال وذلك بعد تمكنهم، بفضل برلمانية التوافق الطوائفي المحصّن بقوانين انتخاب من صنعهم، من شرعنة تجديد انتخاب أكثرهم والنهب والهدر من مالية الدولة بذرائع واجتهادات قانونية في ظل تعطيل أجهزة الرقابة الحكومية المالية والبرلمانية والحزبية المدنية.

وهكذا تتحصن دولة المحميات الطوائفية المناطقية في مواجهة الأداء القانوني والإداري لمجالس التفتيش والنيابات العامة طالما أن الزبائنية تحلل نهم المال العام لصالح الزعيم وأزلامه من أي طائفة كان أسوة بنهب وهدر آخرين من طوائف أخرى. وقد قامت في غياب دولة القانون في ظل عودة الروح إلى الأديان، منذ سبعينات القرن الماضي، في لبنان ومحيطه وبعد غياب الخطاب الإصلاحي الاقتصادي والاجتماعي عن برامج الحكومات "وصارت سياسات الشرق الأوسط عند المسلمين، كما عند اليهود، هي سياسات الكتب المقدسة وترافق ذلك مع ظهور القاعدة (1992)".

وفي لبنان وبعد ان "أصبح الدين هو القلب في عالم بلا قلب" على حد قول كارل ماركس، توسع البراديغم الثقافي الديني العراقي الشيعي _ الإيراني وبلهجاته ليُصبح أكثر تقرباً من آل البيت في إقامة الشعائر العاشورائية وتكريم الأئمة بزيارات مكرّرة لمقاماتهم تنظمها الأحزاب وفروعها النسائية. وهذا ما يشد من عصبية الطائفة بالتمايز عن عصبيات أخرى تُعبر عنه "بحسد" معلن وتوجّس مُريب. وتحولت الجماعات في المناطق اللبنانية المتميزة بأكثرية المتخالطة طائفياً إلى محميات مُسيّجة بأعلام تقاسمت زراعتها، وبتصرف اصحاب البيت، على امتداد الطرق االدولية خاصة ليعرف كل غريب او متشكك ان للمناطق اصحاب واولياء. ولا يغيب عن مهمات المنظمات الحزبية تعليق الاعلام على جميع اعمدة كهرباء الدولة بالاضافة الى جداريات يتزاحم التجار المخلصون للزعيم على تعليقها.

وهذا ما يزيد في إنغلاقات المناطق الطائفية وتفلتها من موجبات التنظيم المدني ومن أنماط من المورفولوجيا الاجتماعية والسياسية تظهر من خلالها أنماط الجيرة والعلاقات بين دهمائيات الطوائف وبين الحارات المتحشّدة العاصمة كما في ضواحيها. ويرسّخ من ناحية ثانية من انفلاش عمران الإغتراب والنزوح من جهة أخرى. ومن تغييب القانون ويلاحظ كل زائر متبصر أنه يجول أحياناً كثيرة في مناطق مستقلة داخل الجمهورية.

عالم اجتماع