التاريخ: نيسان ٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
القفز فوق الواقع اللبناني: إنقاذ «المجتمع المدني» من نفسه - ديما كريّم
تبدو الانتخابات سهلة لمن يعارض السلطة في لبنان. فمن أزمة النفايات إلى التدهور الاقتصادي، مروراً بالتخبطات السياسية، لا يحتاج المعارض إلى برامج معقدة أو خطابات مفصّلة، بل مجرّد تقديم نفسه بديلاً. لكن على رغم هذه «السهولة»، هناك عدم ارتياح متزايد من محاولات «المجتمع المدني» خوض هذه الانتخابات. والمفارقة أن عدم الارتياح هذا تحوّل إلى احتقان لدى بعضنا بات يفوق غضبنا من السلطة. فكيف تحوّل البديل في وجه سلطة كهذه، إلى خيار هزيل؟

في خوضه الانتخابات، ينطلق «المجتمع المدني» من تجربتين اساسيتين هما الحراك المدني في 2015، وتجربة مجموعة «بيروت مدينتي» في الانتخابات البلدية في بيروت في 2016. شكلت التجربة الأولى تعبيراً عن احتجاج فئات من الطبقة الوسطى المتعلمة، وامتعاضها من العيش تحت أكوام النفايات. أما الثانية، فكانت معركة انتخابية ناجحة في ظل فشل السلطة وفسادها في إدارة الحياة العامة، وخاصة على نطاق بلدية بيروت. لكن هذه التجارب لم تستقطب قاعدة شعبية من فئات اجتماعية مختلفة وواسعة. بمعنى آخر، لم تُطوَّر هذه التجارب مكانياً أو زمنياً، فبقيت، على رغم نجاحها المحدود، غير كافية لتأسيس تجربة سياسية أوسع وأنضج وأصعب في ظل الهيمنة على السلطة.

لا شكّ في أنّ بعض ذلك يعود إلى معضلة لطالما واكبت العمل المعارض في لبــــنان وفي العالم عموماً، أي كيفية محاولة نقــــل نجاحات مطلبية محدودة إلى حركات سياسية معارضة فاعلة وشاملة. لكنّ مجموعات «المجتمع المدني» أو أفراداً منها اختاروا التغاضي عن هذا الواقع عندما قــــرروا خوض الانتخابات النيابية المقبلة. فبدلاً من أن يخوضوها كتتويج لتجربة سياسية محدودة في بناء مشروع معارض، اختاروا خوضها كاستبدال لبناء مشروع كهذا. فمن اللافِت حقاً هذا الرفض القاطع للتعبير عن مواقف ذات بعد سياسي. ولعلّ ذلك يعود إلى استنتاج أولئك المرشّحين أن المطالب المحددة كانت كفيلة بتوحيد صفوف معينة من الجيل الجديد، فيما التعبير عن خط سياسي أوسع، أو موقف سياسي جامع، يعود ويفكّك تلك الصفوف.

لكنّ هذا الخيار لا ينمّ عن سوء تقدير لشعبية التحرّكات المدنية وحسب، بل يكشف أيضاً عن مشكلة أخرى، الا وهي الفهم المتسرع والسطحي للسياسة بوصفها محصورة بالانتخابات في بلد تشح فيه التجارب السياسية بالمعنى الأوسع. فطرح هؤلاء الأفراد أنفسهم كبديل غير مسيّس قائم على المساومات والخطاب التبسيطي والوصفات الجاهزة لكل ما نعانيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية وبنيوية وثقافية وسياسية. وهم يقدمون برامج تدّعي وضع الحلول للنظام الطائفي وحقوق اللاجئين والنظام الريعي وفرص العمل وحقوق المرأة والمثليين والصراع الطبقي بوصفها حلولاً متاحة وسهلة عجزنا عن اختيارها من قبل، انتظاراً للمخلّص المدني الذي يفصل هذه المشكلات عن بعدها السياسي.

وما يزيد الأمر سوءاً أن مرشحي «المجتمع المدني» لم يتطرّقوا غالباً إلى معضلة تطبيق هذه الوصفات بنجاح في ظل واقع النظام وتعقيدات الممارسة السياسية وموازين القوى الاجتماعية. فبعدما شكلت هذه الحركات متنفسا وبصيص أمل للجيل الجديد، ها هي تتخلى عن هذه القاعدة المحدودة، لمصلحة قاعدة متخيَّلة تسندها ببرامج مبهمة. وهي بدت وكأنها تلومنا على تقصيرنا في مواجهة السلطة بعدم دعمها.

لكنّ سلوك «المجتمع المدني» اللبناني كشف عن معضلة أخرى هي وجود سلطوي صغــــير في داخلنا. هذا السلطوي الصغير المســـكون بطرح البديل بنفس قصير كحقيقـــة مطلقة، إذ يتضح لنا أن أي محاولة لتضخيم قاعدة دعم شعبية غير موجودة أساساً هي قفز فوق الواقع لمصلحة تحقيق أوهام ومصالح شخصية ضيقة. وبالتالي، تستبدل مشاريع تجميع وتأطير كتل اجتماعية فاعلة بمشاريع فردية وهمية.

لقد اعتدنا، في الواقع، على العمل السياسي الذي يقتصر على الرغبة في التمثيل السياسي لأفراد. فمنذ 1996 ونحن نصوّت لأفراد معارضين، لم ينجحوا في تغيير السياسات حتى بعد وصولهم إلى السلطة.

والحال أنه لا يكمن بناء مشروع سياسي معارض عبر تشجيع المشاريع الفردية، ولا من خلال طرح الشعارات المضادة، ولا بترويج دخول «المجتمع المدني» إلى الحياة السياسية أو باجتماعات مغلقة وبأوراق بحث. فمشكلتنا هي تماماً كمشكلة من يصارع مرضاً (أو كآبة مزمنة أو طلاقاً مريراً): إنها في فهم واقعنا الفظ. وفي النهاية علينا الاعتراف بحجمنا، بموقعنا، بقلة خبرتنا وبموازين القوى الفعلية. وهذا لربما احتاج إلى نفس طويل ووقت أطول تتخلله حقبات مستعصية ويطغى عليه الإحباط أحياناً. وسنبدأ تمثيلاً محدوداً ونتعلم ونحاول ونبني تجربة قد لا تنجح بتغيير السلطة، ولكنها قد تؤثر في تغيير محدود يطاول بعض السياسات العامة.

فأي تجربة تتجاهل واقعنا وتنطلق من فرضية حتمية النجاح لمجرد الترشح في وجه السلطة كفيلة بأن تحبطنا لعقد آخر، لأنها تقيدنا بمشاريع فردية وهمية. وأن نصوت لأي بديل يدّعي تمثيلنا من دون تجربة سياسية، فهذا هو اليأس بعينه الذي سنبقى معه نبحث عن البديل الذي لم يولد بعد.