| | التاريخ: نيسان ٧, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | حول إعلان ترامب نيته سحب القوات الأميركية من سورية - بشير عبد الفتاح | ما كادت تمضي بضعة أيام على إعلان الرئيس دونالد ترامب نيته سحب القوات الأميركية من سورية في أقرب وقت، حتى خرج مجلس الأمن القومي الأميركي ليؤكد بقاء القوات نفسها حتى استئصال تنظيم «داعش».
وانطوى إعلان ترامب على تناقض، إذ سبق له أن انتقد خلال حملته الرئاسية سلفه باراك أوباما لسحبه القوات الأميركية «مبكراً» من العراق، على نحو أتاح لـ «داعش» احتلال ثلثي أراضيه. كما أكد ترامب قبل أسابيع التزام أميركا البعيد الأمد بتموضع عسكري لما يربو على ألفي جندي في منطقة شرق الفرات السورية تحت مظلة الجهود الدولية لمكافحة «داعش»، فيما تتنوع أهدافه الحقيقية غير المعلنة ما بين إحكام واشنطن سيطرتها، بمساعدة الحلفاء، على أكثر من 25 في المئة من مساحة سورية الأغنى بالمياه والنفط والمحاصيل الزراعية، علاوة على كبح جماح النفوذ المتنامي لكل من روسيا وإيران في سورية ومنع الإيرانيين من تدشين طريقهم الاستراتيجي الممتد من طهران حتى بيروت، فضلاً عن منع تركيا من توسيع عملية «غصن الزيتون»، لتطاول منبج وغيرها من مدن الشمال السوري.
وعكَس إعلان ترامب المثير تناقضاً لافتاً مع الإجراءات والترتيبات التي تقوم بها واشنطن في سورية لتعزيز دورها العسكري الطويل الأمد هناك. فتحسباً منها لأي هجوم تركي محتمل، بدأت القوات الأميركية المتمركزة في مدينة منبج والتي تملك ثلاث نقاط مراقبة على الخط الفاصل بين منطقة درع الفرات والمناطق الواقعة تحت سيطرة قوات سورية الديموقراطية «قسد»، في بناء قاعدتين عسكريتين جديدتين علاوة على اتخاذ تدابير لتعزيز تحصيناتها وقواتها العسكرية في منبج، فيما تعكف القوات الأميركية على تسيير دوريات بين منطقة درع الفرات ومناطق سيطرة الأكراد السوريين على نهر الساجور وعلى امتداد الحدود السورية- التركية، كما شرعت في توسيع نقطتي مراقبة في محيط منبج، بغرض تحويلهما إلى قاعدتين عسكريتين.
من جهة أخرى، لم يحظ إعلان ترامب المقلق بترحيب حلفاء واشنطن. فبينما اعتبر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن بقاء القوات الأميركية في سورية على الأقل في المدى المتوسط، من شأنه أن يمنع إيران من توسيع نطاق نفوذها في المنطقة وإقامة الهلال الشيعي، تتخوف إسرائيل بدورها من أن يفضي القرار إلى تعاظم نفوذ إيران وحزب الله ما يعزز احتمالات اندلاع حرب جديدة في المنطقة. ويري خبراء إسرائيليون أن سقوط بلدة بيت جن السورية في أيدي قوات النظام ستمكن الأخير من فتح معبر من دمشق إلى المنطقة غير المحتلة لجبل الشيخ، ما يتيح لحزب الله طريقاً برياً آخر إلى لبنان، يمكنه من نقل الأسلحة عبره. وبينما تتحدث إسرائيل عن حرب محتملة على جبهاتها مع لبنان وحزب الله وقطاع غزة، يتملكها هلع من احتمالات تراجع دعم واشنطن لحاجاتها الأمنية جراء الانشغال الأميركي المتنامي في آسيا. كذلك، اصطدم إعلان ترامب المتهور بسحب القوات الأميركية من سورية باستراتيجية المجتمع الدولي الهادفة إلى الإجهاز كلية على «داعش» ومنعه من إعادة تهديد المنطقة والعالم، خصوصاً بعدما شرع التنظيم الإرهابي منذ الإعلان عن هزيمته في تحري السبل الكفيلة وبإعادة بنائه. فلقد بدأ بعض مقاتليه في التحول إلى لاجئين في سورية والعراق، مستغلين ظروف الفوضى السائدة في البلدين، علاوة على اتفاقات الإجلاء التي تم التفاوض عليها مع الفصائل الكردية، حيث قاموا بإلقاء أسلحتهم والاندساس داخل مخيمات اللاجئين المدنيين، بغرض اتخاذها محطة انتقالية لإعادة الانتشار في البقاع الرخوة في سورية والعراق حينما تسنح الفرصة.
وخلافاً للتقديرات الدولية التي تؤكد هروب جل مقاتلي «داعش» الأجانب من سورية والعراق إلى بلادهم أو بلدان أخرى، بدأت تظهر خلال الآونة الأخيرة تقارير أمنية تشي بأن غالبية مقاتلي التنظيم لا تزال باقية في الرقة والموصل وتعكف على لملمة شتاتها لمواصلة دورها في الذود عما تبقى من حلم الخلافة الزائف في العراق وسورية، حيث أكدت تقارير استخباراتية أميركية أن نسبة 30 في المئة فقط من إجمالي أربعين ألف مقاتل أجنبي انضموا إلى «داعش» هم الذين عادوا إلى ديارهم أو انتقلوا إلى دولة ثالثة، بينما لا يزال يقبع زهاء ثلاثين ألف مقاتل آخرين داخل العراق وسورية. واستبعدت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عودة أولئك المقاتلين لبلادهم، خصوصاً بعدما أضحى ذلك صعباً أكثر من أي وقت مضى جراء اشتداد وطأة العمليات العسكرية، علاوة على انسداد المسارات التي كان المقاتلون الأجانب يسلكونها أثناء عبورهم بعد التزام الدول التي تمر في أراضيها تلك المسارات بتشديد الرقابة على حدودها.
وما زالت فلول «داعش» مما يسمى «أشبال الخلافة» تسيطر على بعض المناطق والجيوب المحدودة في العراق وسورية، والتي ما برحت الامتدادات العشائرية والقبائلية فيها توفر لهم حاضنة اجتماعية يمكنهم الركون إليها، فيما يرنو تنظيم «الرايات البيضاء» الذي ظهر أخيراً في محافظتي ديالي وكركوك والمنطقة الفاصلة بين القوات العراقية وقوات البيشمركة، ويضم مقاتلين «داعشيين» وأعضاء سابقين في مجموعات وثيقة الصلة بالميليشيات الكردية العراقية، إلى استنساخ تجربة «داعش» انطلاقاً من حالة التلاقي الفكري والأيديولوجي التي تجمعهما. وبينما يعمل التنظيم بالتوازي على تجميع ما تبقى من مقاتليه المحليين مستغلاً تدهور الأوضاع المعيشية في المناطق المحررة ومستفيداً من غياب السيطرة الأمنية للحكومات المركزية، فإنه لا يتورع كذلك عن الإيحاء بأنه لا يزال باقياً عبر شن هجمات إرهابية جديدة بين الفينة والأخرى.
وخلال الآونة الأخيرة، كثّفت واشنطن وتيرة التحذير من أن التنظيم لا يزال يحتفظ بوجود مؤثر على الأراضي السورية والعراقية، بما يفاقم من أخطار تهديده لأمن المنطقة والعالم. واستشهد المسؤولون والخبراء الأميركيون بمباشرة التنظيم عملياته في العراق وسورية حتى اليوم على رغم الإعلان عن هزيمته ودحره، ومن ثم أصدرت السفارة الأميركية في بغداد بياناً دانت خلاله العملية وأكدت أن الحرب ضد «داعش» لم تنته بعد، وحذّرت كذلك من أن فلول التنظيم لا تزال تتشبّث بفكره المتطرف، كما تحتفظ بالقدرات والموارد اللازمة لشنّ الهجمات الرامية إلى إدامة عدم الاستقرار في المناطق المحررة وزرع الخوف بين سكانها.
* كاتب مصري | |
|