| | التاريخ: آذار ٢٥, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | خرافات عن« القاعدة» و«النصرة» و«داعش» - وحيد عبد المجيد | يبحث العقل الخرافي عادةً عن تفسير سهل ومريح للأحداث والظواهر، فيخلق عالماً من صنعه. يريحه الاعتقاد بوجود مؤامرات وراء الظواهر التي تشغله، حتى إذا كانت عواملها الموضوعية واضحة، أو يتيسر إدراكها، في بنية المجتمع وثقافته وطريقة إدارته.
ولذا ظل عقلنا الخرافي في العالم العربي يختزل الإرهاب في مؤامرات كبيرة أو صغيرة منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. لم يكن هناك إرهاب، أو إرهابيون، وراء تلك الهجمات، بل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA. هكذا رأى بعضنا حدثاً جللاً أدى إلى تحولات لا تزال تتفاعل في العلاقات الدولية، وليس في الظاهرة الإرهابية فقط. وبقيت تلك الخرافة قيد التداول حتى اليوم بعد أن صارت معروفةً أدق تفاصيل هجمات 2001 منذ أن بدأ إعدادها، وتبعتها خرافات أخرى بعضها جديد انتشر في الفترة الأخيرة.
لم يكف عقلنا الخرافي عن إبهار العالم بقصص «فوق أسطورية» يدور معظمها حول علاقة الغرب بالظاهرة الإرهابية المعولمة منذ تأسيس تنظيم القاعدة، وحتى إنشاء التنظيم المُسمى داعش. لكن القصة التي يزداد انتشارها الآن حول القاعدة تذهب إلى مدى أبعد، ومفادها أن واشنطن لم تُوظف تدفق إسلاميين متشددين للقتال في أفغانستان فقط، بل دعمت تأسيس هذا التنظيم في صورة مباشرة. وعلى رغم أن تناقضات السياسة الأميركية وأخطاءها، وخطاياها أحياناً، تسببت في توسع نطاق الإرهاب، تؤكد القصة الجديدة حول تورطها في تأسيس القاعدة أن عقلنا الخرافي أخطر علينا من أسوأ سياسات الولايات المتحدة وغيرها من القوى الكبرى.
آفة هذا العقل أنه ينفر من التفكير في منطقية ما يُحشى به حتى حين يسهل تقييمه. ولذا لا يزن قصة إسهام واشنطن في تأسيس تنظيم القاعدة وفق معطيات باتت واضحة، أهمها أن التراكم الطويل الذي أنتج هذا التنظيم كان قد بدأ قبل نحو عقد من حرب أفغانستان، واستمر ما يقرب من عقد آخر بعدها.
كان تنظيم القاعدة أول حركة عنف معولمة تحمل راية «إسلامية». ومر تأسيسه في ثلاث مراحل ضمن عملية تاريخية بدأت في داخل بلدان عربية في أواخر الستينات، واكتملت في أفغانستان في نهاية التسعينات. ارتبطت الإرهاصات الأولى للعنف في منطقتنا بتحولات مجتمعية وثقافية ترتبت على فشل نظم حكم عربية أحادية ومغلقة، وتنامت بفعل صدمة هزيمة 1967 بكل قسوتها، فظهرت في نهاية الستينات مجموعات متطرفة شكلت في السبعينات ما عُرف في مصر بتنظيم الجهاد الذي شارك زعيمه أيمن الظواهري في إعلان تأسيس القاعدة بعد أكثر من عقدين.
كانت حرب أفغانستان فصلاً أساسياً في عملية تأسيس القاعدة، وليست فصلها الوحيد على رغم أهميتها في سياق هذه العملية. استخدم القيادي الإسلامي الأردني عبدالله عزام اسم القاعدة للمرة الأولى خلال تلك الحرب في مقالة نشرها في مجلة كانت تصدر في بيشاور. كتب عن الحاجة إلى «قاعدة صلبة». كما أسس أبو عبيدة البنشيري معسكرات للتدريب كانت تُسمى القاعدة.
والأهم من الاسم أن حرب أفغانستان جمعت عدداً كبيراً من المقاتلين ذوي المرجعيات «الإسلامية»، ووفرت فرصة تسجيل بياناتهم على نحو أتاح التواصل مع بعضهم بعد نهاية تلك الحرب، وتأسيس التنظيم الذي كان الأميركيون هدفه الأول.
ومثلما صنع العقل الخرافي قصة دعم واشنطن تأسيس القاعدة، يتخيل أصحابه الآن أن تركيزها على تنظيم داعش، منذ أن أعلنت حربها عليه وأسست تحالفاً دولياً ضده في خريف 2014، يعني أنها متواطئة مع جبهة النصرة.
ويعتقد من يفكرون بهذه الطريقة أن واشنطن استولدت النصرة من رحم القاعدة، مغفلين الظروف التي أحاطت الثورة السورية في بدايتها وأدت إلى ظهور عدد كبير من التنظيمات المتفاوتة في تطرفها وعنفها.
والحال أن عقلنا الخرافي لا يبحث عن مؤامرات إلا في الغرب. ولذا نغفل معطيات تفيد بأن النظام السوري كان المستفيد الأول من وجود جبهة النصرة، منذ شروعه في تسويق قصة أنه يواجه إرهاباً وليس احتجاجاً شعبياً، وحتى قصفه الوحشي على الغوطة الشرقية بحجة وجود مقاتلين من هذه الجبهة فيها.
وقل مثل ذلك عن تنظيم داعش الذي أسدى خدمات بعضها مباشر إلى نظام بشار الأسد، ووفر له أقوى الذرائع للقتل والتدمير والتهجير. لكن الحرب التي أعلنتها واشنطن عليه لم تحل دون انتشار خرافة أخرى عن تورطها بدور ما في تأسيسه. وربما تبدو خرافة وجود دور أميركي في تأسيس داعش الأكثر فجاجة بين الخرافات الشائعة في هذا المجال. فقد مر انفصال داعش عن القاعدة في مراحل توالت بسرعة بين العامين 2006 و2012. ولا تزال تفاصيل هذا الانفصال حاضرة في أذهان من يتابعون الأزمتين العراقية والسورية، على نحو يستعصى في ظله تصور دور أميركي في إنشاء داعش.
بدأت العملية التي قادت إلى ظهور التنظيم الإرهابي الأكثر توحشاً حتى اليوم في خريف 2006، عندما اندمج تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين مع مجموعات مسلحة أخرى، وانضم إليه عدد كبير من ضباط جيش صدام حسين وجنوده الراغبين في الانتقام، خلال اجتماع أُطلق عليه «حلف المطيبين»، وأسفر عن إعلان تنظيم أُطلق عليه «الدولة الإسلامية في العراق».
وأخذ هذا التنظيم في الابتعاد تدريجياً عن قيادة القاعدة، بخاصة بعد أن تولى أبو بكر البغدادي قيادته في 2010، حتى انفصل عنه تماماً عقب خلاف معروفة تفاصيله، بدأ بإعلانه ضم جبهة النصرة إليه ليصبح اسمه «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ورفض الظواهري هذا الضم.
والحال أن مسارات إنشاء التنظيمات الإرهابية الكبيرة منذ القاعدة إلى داعش صارت معروفة وواضحة. لكن المثير أنه كلما توسعت معرفتها، ازداد عقلنا الخرافي انغماساً في قصص متخيلة تصطدم بوقائع بات معظمها معلوماً.
وربما نجد مدخلاً لفهم هذه المفارقة في حال المنطقة نفسها، إذ تزداد الأوضاع فيها تردياً، والأزمات تفاقماً، فينتشر الإحباط بمعدلات أكبر، على نحو يدفع العقل الخرافي إلى الانغماس في البحث عن مؤامرات أخطر. وهذا، على أية حال، افتراض يتطلب تفكيراً وبحثاً جادين. | |
|