| | التاريخ: آذار ١٨, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | سبع سنوات قاسية ولم يسترح السوريون بعد - عبدالباسط سيدا | كنا في زيارة إلى القاهرة ضمن وفد المجلس السوري، منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2012، وفي لقاء مع الصحافة تزامن مع مرور تسعة أشهر على بداية الثورة السورية، قلت حيئذٍ في إجابتي عن أحد الأسئلة: ها قد مرت تسعة أشهر على الثورة السورية وهي ما زالت مستمرة. ولن تتوقف ما لم تحقق أهدفها حتى لو استمرت تسعين شهراً.
لم نكن نتوقع وقتها أن تستمر الثورة بالفعل كل هذه المدة، لأن المؤشرات في معظمها كانت بالنسبة لنا توحي بأن نهاية النظام باتت قريبة، وأن المجموعة الدولية الكبيرة التي أعلنت عن نفسها صديقة للشعب السوري كانت نشطة، وتصدر عن دولها الإعلانات المتكررة حول فقدان النظام للشرعية، وضرورة البحث في مستقبل السوريين من دون بشار الأسد.
لم نكن نتوقع، ولم نكن نتمنى بطبيعة الحال، أن تكون تضحيات السوريين بهذا الجحم الكارثي. فقد بات أكثر من نصف الشعب السوري مهجراً مشرداً، وأكثر من نصف البلد مدمراً. أما النصف الباقي من البشر والحجر فهو معطّل مثخن بالجراح، تنتظره أيام سوداء بفعل الأزمات والمشكلات الراهنة، وتلك المستقبلية التي ستكون.
كنا في ذلك الوقت مجموعة من المعارضين ممن التزموا أهداف الثورة السورية منذ اليوم الأول، وحاولوا بناء على خبراتهم وتجاربهم في المعارضة أن يساعدوا أبناء شعبهم، من باب الواجب، في التعبير عن أهدافهم في المحافل الدولية، وتثبيت عنوان واضح للثورة التي اندلعت بركاناً شعبياً ثائراً من دون قيادة، وبعيداً من المعارضة التقليدية التي ظلت مترددة حائرة، تضع قدماً هنا وأخرى هناك، في انتظار أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود.
لم تكن لدينا خبرات ديبلوماسية واعلامية، ولم تكن لدينا معرفة واسعة تفصيلية بأحوال الدول وأساليب عملها. ولم نكن على اطلاع كافٍ على الخلافات الداخلية الصامتة ضمن مجموعات صديقة. ولم نكن نتوقع أن يصطف العديد من الدول العربية إلى جانب النظام، مع معرفتها الكاملة بأهمية وحيوية سورية في الاستراتيجية الإيرانية.
إضافة إلى ذلك، اعتقدنا أن الغرب قرر أخيراً أن يتصالح مع رواد نهضته، ومع تراث المصلحين والفلاسفة الانسانيين من أبنائه، وأنه سيرفع الغطاء عن الأنظمة المستبدة الفاسدة الفاشلة التي حولت مجتمعاتنا إلى مجرد كتل بشرية مستهلكة يائسة، تبحث عن الحلول الفردية عبر التكيف مع المزيد من الاستنزاف والإذلال، حتى بات الحديث عن أي مستقبل كريم نوعاً من الترف أو الأحلام المستحيلة. وإلى جانب كل هذا وذاك، لم نتوقع أن يكون مستوى الحقد الروسي على السوريين الثائرين على النظام قياسياً كما ظهر.
لكن الذي تبين لاحقاً هو أن الأمور كانت أعقد من قراءاتنا السطحية المتسرعة التفاؤلية، وأن الحسابات الواقعية هي من ماهية أخرى مغايرة تماماً للنزعات الرغبوية الطيبة.
كما تبين لنا أننا بتساهلنا مع الأخطاء الصغيرة الكثيرة، واعتمادنا العقلية الاتكالية، فسحنا المجال أمام تراكمات كميّة هائلة من الأخطاء التي أحدث منعطفات سلبية نوعية في مسيرة ممثلي الثورة السورية الذي تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى مجرد معارضة ضمن إطار الائتلاف الذي تشكّل أصلاً بناء على توافقات ورغبات الدول من مجموعة أصدقاء سورية، تلك المجموعة التي سرعان ما ظهر بأنها كانت مجرد حشد متعدد التوجهات والنوازع، حشد لم يصمد في مواجهة تصلب المحور الروسي- الإيراني الذي لم يتمكّن من تغيير الأولويات في سورية والمنطقة فحسب، بل كشف النقاب عن عمق الأزمة الشاملة، بوجهها الأخلاقي على وجه التحديد، التي تعاني منها أنظمة الديموقراطيات الغربية.
وتكاثرت المنصات، وتناسلت، بجهود من الدول التي دعمت النظام، ولجأت إلى تمزيق وحدة صف الممثلين السياسيين للثورة، حتى غاب مصطلح الثورة تماماً، وأصبح الجهد كله يدور حول كيف إيجاد صيغة لإبقاء النظام مع رتوش تزيينية لا تغير من جوهر قباحاته شيئاً.
ثورة السوريين تنهي عامها السابع، وتقترب من شهرها التسعين، ومع هذا لا تبدو في الأفق معالم اي حلٍ قريب. فالدول الكبرى لم تتفق بعد، والنهج ما زال هو نفسه منذ البداية: إدارة الأزمة.
أما الدول الإقليمية، فهي تعمل من أجل تقوية نفوذها، وضمان إبعاد الأخطار المستقبلية المحتملة عنها. هذا في حين أن النظام العربي الرسمي بات مجرد اسم من دون أي يكون له وقع أو تأثير.
وبالتزامن مع الذكرى السنوية السابعة لثورتهم، يعيش السوريون على وقع معركتين أليمتين: معركة الغوطة ومعركة عفرين.
الأولى تهدد توازن القوى في محيط دمشق ومركزها، وتؤكد مدى توحش النظام ورعاته مقابل انعدام الحس الأخلاقي لدى ما يسمى بالمجتمع الدولي.
أما الثانية، معركة عفرين، فهي تهدّد بتفجير النسيج المجتمعي السوري من الداخل، وتؤكد أن كرد سورية باتوا ضحية المشاريع الإقليمية لحركات عابرة للحدود، ودول تستغلهم لتعزيز نفوذها، أو تتذرّع بالأخطار التي قد يشكلونها على أمنها.
ولكن في جميع الأحوال، فإن ما يجري في الغوطة وعفرين لا يخرج عن إطار اللوحة السورية الكاملة. فما جرى ويجري إنما هو استكمال لما كان في حمص وحلب ودرعا والشرق والشمال السوريين.
وعلى رغم كل ادعاءات معسكر النظام وتبجّحه، فإن العجلة السورية لن تعود إلى الوراء. وواهم من يعتقد أن الحسم العسكري لمصلحة النظام معناه انتهاء الثورة السورية، فهذه وجهة نظر لا تستند إلى أي أساس. فالنظام قبل الثورة كان يتحكّم بالمؤسستين العسكرية والأمنية بصورة كاملة، ويسيطر على مفاصل الدولة والمجتمع. وكانت له علاقات متشابكة مع المحيط العربي والجوار الإقليمي، وحتى على المستوى الدولي.
ولكن مع ذلك تمكن النشطاء من المدنيين العزل، من شباب الجامعات والمثقفين وأوساط مجتمعية واسعة من مختلف المكونات، من التحرك بقوة، وزلزلوا الأرض تحت أقدام الطغاة.
إن الحسم العسكري لن ينهي ثورة السوريين أو يقضي عليها، بل ينقلها إلى مرحلة أخرى، يستعيد فيها السوريون ثورتهم المدنية الوطنية، ولكن بإرادة أقوى، وأكثر مناعة، وخبرات مكتسبة متكاملة متنوعة لا تُضاهى. | |
|