| | التاريخ: آذار ٦, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | سورية بعد ستين عاماً من دولة الوحدة - مصطفى الفقي | في مثل هذه الأيام منذ ستين عاماً؛ لم أكن قد غادرتُ سنوات الطفولة، ولكنني شعرتُ بسعادة غامرة تحيط بي من كل مكان، وربما لم أدرك معناها بالكامل ولكنني كنت أتجاوب معها بالفعل، فقد كان الزهو يملأ قلوبنا والأمل يغمر نفوسنا لأن دولة جديدة قد ولدت في الشرق؛ ليست عادية أو مستعدية، فهي توحد ولا تفرق، وتشد أزر الصديق وترد كيد العدو، وفق الأستاذ هيكل - كاتب الناصرية المفضل – الذي صكَ تلك العبارات كالجواهر التي ترصع إكليل الغار للدولة الوليدة. صدحت الموسيقى بالأغاني القومية التي تربط بين المدن المصرية والمدن السورية حتى يتعرف الشعبان الى ما لدى كل منهما، ولم تكن «التلفزة» قد دخلت في الإقليمين المصري والسوري، كما أن فضائيات ثورة المعلومات الهائلة لم تكن قد ظهرت وكانت معلومات كل شعب عن الآخر تاريخية أكثر منها جغرافية، بل إن القاسم المشترك كان هو الشعبية الهائلة لزعامة عبد الناصر الذي حمل السوريون سيارته ترحيباً وتأييداً. أتذكر ذلك الآن وقد جاوزتُ السبعين عاماً ورأيت من المشاهد بعد ذلك ما اختلف كثيراً عن فكر تلك الأيام الرائعة بزخمها القوي وقوة دفعها التي سيطرت على مشاعر العرب في كل مكان، ويصبح من حقي أن أطرح الملاحظات الآتية:
أولاً: ولدت القومية العربية بمدلولها المعاصر في «الشام الكبير» حتى امتد جزء منها إلى بلاد المهجر خصوصاً في الأميركيتين ولذلك إذا سألت سورياً من أنت؟ فسوف يقول لك أنا عربي من سورية بينما إذا وجهت السؤال ذاته إلى غيره من الأشقاء في بعض الأقطار العربية فيكون رده بالإشارة إلى الانتماء القطري مجرداً، لذلك فإن العروبة هي نتاج لروح سورية الكبرى، منها خرجت دعوات القومية والنداءات لتأكيد العروبة وإبراز هويتها، ولا يخفى على أحد أن السوريين بوجودهم التاريخي وامتدادهم الجغرافي هم حملة ألوية الوحدة ودعاة الفكر القومي مع اختلاف مذاهبهم وطوائفهم إلا أن العروبة تجمعهم، ولقد رأينا كيف أن مسيحيي الشام قد لعبوا دوراً فاعلاً في التمكين للغة الضاد والتركيز على ثقافة العروبة والاعتزاز بهويتها لذلك كان طبيعياً أن يستجيب عبدالناصر لنداءات الوحدة القادمة إليه من سورية موطنها وموئلها ومصدر الدعوة إليها.
ثانياً: لقد ظلت سورية هي رأس الحربة في الوطن العربي ومركز الاستهداف الذي يسعى الجميع الى احتوائه والسيطرة عليه، إنها سورية التي حاربت جبروت «آل عثمان» ودفعت بقوافل الشهداء للخلاص منه، وهي أيضاً سورية التي واجهت الفرنسيين ببسالة ودفعت ضريبة الدم على نحو هز المنطقة كلها حتى قال أحمد شوقي قصيدته الشهيرة وفي شطر أحد أبياتها (وعز الشرق أوله دمشق)، ولقد وقفت سورية دائماً قلعة للنضال وطليعة للجهاد فتكالب عليها الأعداء وسعى إليها الطامعون ولكنها ظلت على العهد بها صامدة عنيدة لذلك كان خيار الوحدة بالنسبة الى شعبها هو الخيار الأمثل، فرأوا في القائد المصري الأسمر مارداً يقاوم الاستعمار ويسعى الى التحرر ويدعو للقومية العربية فاستجابوا له والتفوا حوله في غمار مشاعر عاطفية جياشة في شهر شباط (فبراير) 1958.
ثالثاً: توقع السوريون الكثير من عبدالناصر، وبنى خيالهم القومي وشعورهم الوحدوي آمالاً عريضة على قيادته، ولكن ممارسات الحكم في الجمهورية العربية المتحدة لم تستوعب الاختلافات المطلوبة عند التعامل مع الإقليم السوري، حيث عبثت بعض العناصر العسكرية من الإقليمين بمقدرات الوحدة ولم يدركوا مدلول شعاراتها القومية وتصرف بعضهم على غير ما يجب، فانهارت آمال قطاع من الشعب السوري الذين اكتشفوا أن هناك من يحاول تحويل حلم الوحدة إلى وهم للسيطرة، كما أن دخول «الناصرية» في مرحلة التحول الاجتماعي بـ «التأميم» ومحاولة تصفية (الشركة الخماسية)، كل ذلك أدى إلى وضع مختلف تماماً، فالثورة القومية تجمع الكل، أما الثورة الاجتماعية فإنها تقسم المجتمع وتثير الصراع الطبقي وتستدعي أحياناً ميلاد الأحقاد بحيث تصبح البيئة ملائمة للأجواء التآمرية وهذا ما حدث بالضبط حيث ولدت مؤامرة الانفصال لتوجه أكبر ضربة للتجربة الوحدوية العربية في القرن العشرين.
رابعاً: ما زلت أتذكر ذلك اليوم من صباح 28 أيلول (سبتمبر) 1961 وصوت عبد الناصر المتأثر مما حصل، يعلن عن قيام تمرد عسكري في معسكر «قطنة» وامتداده بشكل يوحي بتدابير عسكرية خارج نطاق الشرعية على نحو يشير إلى انقلاب انفصالي ثم بدأت الأنباء تتوالى والتطورات تُجرى، وفكر عبدالناصر في إرسال قوات المظلات للجيش العربي لإخماد الفتنة لكنه اكتشف أن ذلك سوف يعني اقتتال الأخ مع شقيقه وقد يؤدي إلى سفك دماء عزيزة من أبناء الجمهورية العربية المتحدة فأوقف العمل العسكري وقبل بالانفصال، وأعلن أن الجمهورية العربية المتحدة سوف تظل رافعة أعلامها مرددة نشيدها بل احتفظ عبدالناصر باسم الدولة الوحدوية حتى رحيله وتغيير دستور البلاد! إنها صفحة حزينة من الكفاح القومي الذي كان يجسد آمال العرب، بينما كانت سورية هي بحق رأس الحربة فيه.
خامساً: عرفت سورية حالة من عدم الاستقرار بعد الانفصال وانهيار «الجمهورية العربية المتحدة» وظهرت مجموعات من البعثيين والقوميين العرب والوحدويين الاشتراكيين يحاول كل منهم تصفية الآخر والسيطرة على مقدرات الحكم، إلى أن تمكن الفريق حافظ الأسد من القيام بما سمي «الحركة التصحيحية»، حيث ظل قابضاً على أعنة السلطة لأكثر من ربع قرن وورث الحكم من بعده ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد، ولأن الظروف اختلفت ولأن الخريطة السياسية تبدلت ولأن الأمواج العاتية تزايدت فإن حكم الأسد في سورية قد تعرض لثورة شعبية عارمة في إطار أجواء الربيع العربي وانقسمت سورية على نفسها، ولم يعد في مقدورها أن تحافظ على وحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية، حيث أطلت الطائفية البغيضة برأسها وتوارت الشعارات القومية خلف عبارات الانتقام وشهوة السلطة وحمامات الدم! ولكن المؤسف أكثر من ذلك هو أن المسألة السورية قد تم تدويلها بعد أن تم تجميد عضويتها في جامعة الدول العربية فلم يعد الحل في يد العرب بل انتقلت إدارة الصراع إلى طهران وموسكو وأنقرة، وهكذا سلم العرب طواعية بمصائر شعوبهم ثمناً لشهوة الحكم أو توجهاً نحو تصفية الحسابات، وتلك كلها علامات هوان لا تليق بما كنا نتصورهم (خير أمه أخرجت للناس).
سادساً: تشير كل التقديرات إلى أن إعادة الإعمار إلى سورية أمر يحتاج مئات البلايين من الدولارات، فضلاً عن أن ذلك الشعب قد أصبح موزعاً ولاجئاً في الدول العربية والدول الأوروبية وغيرها، وما زالت صورة الطفل السوري اللاجئ الذي قضى غرقاً على أحد شواطئ تركيا تجسد قمة المأساة التي روعت الطفولة ودمرت الأمومة ووضعت الشعب السوري تحت معاناة لا نظير لها، فأصبح ذلك الشعب العربي الذي كان يستقبل اللاجئين هو ذاته الذي يلجأ إلى الآخرين!
سابعاً: إننا إذ نحتفل بمرور ستين عاماً على الوحدة المصرية السورية، فإننا نتساءل من المسؤول عما حصل في حق الشعب السوري؟ ونتساءل أيضاً عن الأطماع التركية ومحاولات السيطرة الإيرانية التي لم تتوقف، وهل يصبح الرئيس السوري جزءاً من المشكلة أم جزءاً من الحل؟ وما هو الدور المرتبك للولايات المتحدة الأميركية في تلك الأزمة الكبرى؟ وما هو العائد على إسرائيل مما حصل؟ وهي التي تفرك يديها في سعادة والعرب يحققون لها ما تريد من دون أن تفعل هي شيئاً بل تنتظر فقط على الجانب الآخر من النهر تحصي الضحايا وتكتشف سقوط مظاهر القوة! فلم تعد إسرائيل تخشى أحداً، فالجيش السوري مزقته حرب أهلية استمرت أكثر من سبع سنوات، والجيش المصري يتم استنزافه في حرب على الإرهاب في سيناء وغيرها والقوة العراقية ـــ وقد كانت كبيرة ـــ قد تم تحييدها في الصراعات القومية منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ولم يعد أمام إسرائيل إلا هاجس إيراني تردده بين حين وآخر وهي تدرك أن أمنها لم يكن مستقراً في مرحلة معينة مثلما هو الآن، خصوصاً أن القضية الفلسطينية قد توارت إلى الصف الثاني بعد أحداث الربيع العربي التي تحيطها عشرات من علامات الاستفهام.
ولعلنا نستطيع أن نستطرد في طرح التساؤلات واستدعاء الإجابات لكننا سوف نظل في النهاية مدركين أن ما حصل للشعب السوري هو نتاج طبيعي للموقف المأزوم دولياً والطريق المسدود إقليمياً، وهو ما يستوجب توسيع دائرة الرؤية للمستقبل العربي بحيث تطل علينا منه سورية الجديدة في ظل واقع مختلف تخرج فيه المنطقة من مستنقع الإرهاب لتشهد فجراً جديداً لعله يلوح في الأفق على رغم كل المتاعب والمصاعب والمشكلات والتحديات، إننا بعد ستين عاماً من قيام الوحدة بين مصر وسورية نتطلع إلى عودة قوة الدفع التي كانت تحرك العرب في ذلك الوقت منذ عدة عقود!
* كاتب مصري | |
|