التاريخ: شباط ٢٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لبنان: أنموذج الحرب الأهلية الدائمة - أنطوان قربان
في آذار 2011، نظّم "مركز بروكسل الثقافي" ندوة دولية، في Halles de Schaerbeek، حملت عنواناً مقلقاً إلى أقصى الحدود: "بيروت، أنموذج الحرب الأهلية الشاملة والدائمة". إلى جانب الفيلسوفَين توماس برنز ولييفن دو كوتر، شارك في الندوة عدد كبير من المفكّرين اللبنانيين، منهم المهندس المعماري المتخصص في التخطيط المديني جاد تابت، والاختصاصي في علم الإنسان غسان الحاج، والاختصاصية في العلوم السياسية جيهان صفير، والكاتب الياس خوري، إلخ. تطرح هذه الندوة بيروت (وتالياً لبنان) كنموذج باراديغمي عن مستقبلِ عالمٍ حيث يصبح التشوّش معمّماً أكثر فأكثر: مزيج من الهويات الجماعية؛ الحدّة المتزايدة لجميع الأيديولوجيات المركّبة الدينية والدنيوية، وكذلك للنتيجة المباشرة المتأتّية عنها، ألا وهي الحرب ضد الإرهاب ذات التعريف الضبابي والمبهم جداً. 

عشية المعركة الانتخابية ذات المعالم الشديدة التشوّش؛ وفي خضم قعقعة السلاح الفوضوية، من الجيد النظر من جديد في هذه الحالة المفترَضة من الحرب الأهلية المستترة والدائمة التي ينطبع بها لبنان، والتي من شأنها أن تشكّل نموذجاً مستقبلياً لمدن العالم المعولَم. بالنسبة إلينا نحن "العصريين"، الورثة المفترَضين لعصر الأنوار، مفهوم الحرب الأهلية مزعج جداً إلى درجة أن غالبية المراقبين يستبعدونه على الفور من مجال تفكيرهم. النزاع الداخلي هو، في نظرنا المعاصر، تابو لا يمكن خرقه منذ أمرَ هوبز، في كتابه Leviathan، بحظره. يقترح الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبين، في بحث صدر حديثاً بعنوان "الحرب الأهلية"، عقيدة للحرب الداخلية أو الأهلية، مختلفة عن الحرب الخارجية بين الدول. نعيش، منذ القرن الثامن عشر، في نوعٍ من الراحة الفكرية، راحة الاقتناع، أو راحة الوهم، بأن الدولة - الأمة تمكّنت من تعطيل العدو الداخلي بصورة نهائية، وإرساء سلام دائم في الحاضرة، مرسِّخةً بذلك العقد الاجتماعي.

يُخيَّل إلينا أن مفهوم العدو ينطبق حصراً على جماعة خارج الحدود. وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن تكون الحرب إلا حرباً خارجية، بين الدول. يبقى العنف الحربي، في نظرنا، غريباً عن ديناميّة الحاضرة في ذاتها. ويبقى مفهوم السياسة (Le politique)، بمعنى العيش معاً في متّحدٍ ما داخل حاضرة ما، غير متوافق مع أي تمزّق داخلي، أو stasis، وهو المصطلح الذي كان الإغريق يستخدمونه للإشارة إلى الحرب الأهلية. يقترح جيورجيو أغامبين، عن حق، نظرية الـstasis، وهي كلمة تعني، وهنا تكمن المفارقة، "الحرب الأهلية" و"حالة التوقّف" في آنٍ واحد. تكشف هذه الازدواجية سراً مصاناً كما يجب، والمقصود بذلك العنف المؤسِّس للحاضرة، أي الدينامية المتعددة الشكل للحرب الأهلية بوصفها "أنموذجاً تأسيسياً للسياسة". يتطرّق عالِم الاجتماع جاك بوشار إلى الإشكالية نفسها، متحدّثاً عن "العدو في قلب مفهوم السياسة".

بالنسبة إلى الإغريق القدامى، هذا العنف الداخلي ضروري للحاضرة، إلى درجة أن مَن لا يشارك فيه يجد نفسه مجرّداً من حقوقه السياسية. إنما ما السبيل للخروج منه؟ عام 403 ق.م.، أعاد أبناء أثينا إرساء الديموقراطية عبر التعهّد بنسيان الآلام التي ولّدها عنف نزاعاتهم. فضلاً عن ذلك، وبغية الحؤول دون اندلاع حروب أهلية، أصدروا مرسوماً يأمرون فيه المحاربين القدامى بنسيان الماضي. وهكذا لم تُبنَ المنظومة الجديدة على الذاكرة بل على النسيان. لقد تخطّوا التمزّق الذي أحدثته المواجهة العنيفة بواسطة السلاح، وانتقلوا نحو القوة الشفهية للكلمة ولبلاغة خطابية جديدة: إنها قوة الجمعيات التداولية.

كيف عسانا نشرح ونفهم أن المجموعات المتناحرة المتداخلة تبقى عاجزة عن شفاء الجروح؟ تفضّل تلك المجموعات الهروب نحو الأمام: عدم احترام القواعد والإجراءات الدستورية، تمديد الولايات النيابية، إملاء نتائج العمليات التشاورية الديموقراطية بالقوة، إلخ. هذه ليست سوى استعارات مجازية وعوارض لتمزّقات قديمة لا تزال تنزف. كل نسيانٍ مهدِّئ يبدو متعذِّراً. هل ستُغيّر الانتخابات التشريعية المقبلة شيئاً في هذا الوضع؟ التشكيك مشروعٌ في هذا المجال.

يعجز مفهوم السياسة اللبناني عن الخروج من حالة الـstasis الدائمة. فهو لا يكف عن الوقوع فيها. يجد لبنان نفسه في حالة من اللاستقرار، نوع من المرض المزمن الذي تعاني منه الحاضرة، التي هي أسيرة تسوية عرجاء تأثيرها في الجسم الاجتماعي كما تأثير الاضطراب العصبي في الفرد. سيغموند فرويد هو أفضل مَن عبّر عن هذا الوضع في كتابه "موسى والتوحيد" عندما كتب عن العمليات المرتبطة بالاضطراب العصبي: "لا تتأثّر بالواقع، أو لا تتأثّر بالواقع بما فيه الكفاية [...] إنها في شكل من الأشكال حالة داخل الحالة، فريق يتعذّر الوصول إليه، غير مؤهّل للتعاون، إنما يمكنه أن ينجح ويسيطر على الآخر [...] ويضعه تحت تصرّفه".

أستاذ في الجامعة اليسوعية 
المصدر: ترجمة نسرين ناضر عن الفرنسية