| | التاريخ: شباط ٢٢, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | الحروب الأهلية العربية وما يميّزها عن حروب الآخرين - موريس عايق | تعيش المنطقة العربية على وقع حروب أهلية معممة، من سورية إلى العراق وليبيا واليمن والصومال، وسابقاً العراق ولبنان والسودان والجزائر وهلم جرا. حروب لا تتوقف إلا لتعود من جديد، وربما يكون لبنان المثل الأكثر تطرفاً لجهة ديمومة الحرب الأهلية.
بل يمكن اعتبار فترات الاستقرار نفسها حروباً أهلية باردة تشنها الأنظمة على شعوبها، فالاستقرار والأمن العربيان هما الوجه الآخر لحكم المخابرات والعسكر.
يحيل المفهوم العربي «الحرب الأهلية» إلى الأهل، بعكس مقابله في اللغات الأجنبية كالإنكليزية والألمانية، حيث يحيل إلى المواطنين، حرب بين المواطنين وليس الأهل. يذكّر هذا بالنقاش الذي حصل في التسعينات حول ترجمة مفهوم «المجتمع المدني»، بوصفه الهيئات الوسيطة التي تقف بين الفرد والدولة من أحزاب ونقابات وجمعيات طوعية. في الحالة العربية كانت الهيئات الوسيطة هي القبيلة والعشيرة والمؤسسة الدينية التي تحيل للأهلي وليس للمدني ومؤسساته الحديثة. لهذا تم وقتها اقتراح مفهوم المجتمع الأهلي تمييزاً له عن المجتمع المدني المفقود أو الجنيني في الحالة العربية. النقاش الذي دار حول المجتمع المدني والأهلي كان تقريباً نقاشاً عربياً خالصاً.
هنا أيضاً يبدو التميّز الخاص بالتعبير العربي- على رغم أنه مقابل اصطلاحي للمفهوم في اللغات الأخرى- مفيداً في مساءلة الحروب الأهلية العربية، بوصفها حروب الأهل. خيضت الحروب الأهلية الغربية- الروسية والفرنسية والإسبانية واليونانية الخ... بين مواطنين، جماعات تتعرف على نفسها من خلال أيديولوجيات حديثة وتتأطر في بنى مؤسساتية حديثة وتهدف إلى تحقيق انتصار هذه الأيديولوجيات ويمكن النظر إليها بوصفها صراعاً ملازماً لمرحلة انتقالية.
في المقابل فإن الحروب الأهلية العربية، وبمعزل عن لحظات الانتفاضة الأولى، هي حروب بين الأهل، تُسيّس الأهلي باعتباره عصبية مقاتلة، سواء كان هذا الأهلي طائفياً أو قبلياً أو جهوياً أو أثنياً. الميزة الحاسمة التي تفرق بين نمطي الحربين هي أن حروبنا لا تنتهي بعكس حروب الآخرين. هناك تُهزم الأيديولوجيا، بينما لدينا لا يمكن للأهلي أن ينتهي، فالسني والشيعي والعلوي والمسيحي سيبقون، وكذلك العربي والكردي والسوداني الجنوبي الخ... لا هدف لحروبنا الأهلية سوى المُلك. كذلك وبحكم أن حروبنا، حروب الأهلي، مستدامة فهي تترافق مع أمراء حرب يعتاشون على إدامة الحرب واستمرارها كمصدر رزق مرتبط بالحواجز والنهب، بعكس الحروب الأهلية التي عرفها الآخرون حيث سعى كل طرف محارب إلى بناء اقتصاد يساعده على تغذية موارده وتقويتها من أجل الانتصار. اقتصاد ريعي للحرب الأهلية مشابه لاقتصاد الدولة العربية نفسه.
يظهر تَسييس الأهلي على نوعين. ظاهر، مثلما لدى الإسلام السياسي بنسختيه الشيعية والسنية أو المارونية السياسية، حيث التَسييس الصريح للانتماء الطائفي، لكن أيضاً على سبيل التقية وباستخدام أيديولوجيات حديثة، مثلما لدى النظام السوري والعراقي سابقاً والحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني، حيث العصبية الأهلية هي الفاعل الحقيقي. يمكن لنا أن نستذكر الحروب الأهلية الأفريقية، حيث تُشكل كل قبيلة جبهتها الديموقراطية أو التقدمية أو الليبرالية.
لماذا نحارب بالأهلي وليس بالمدني، أو بتعبير آخر لماذا لم تنجح الهويات المدنية الحديثة لدينا في مواجهة الهويات الأهلية؟ لا تعني الهويات المدنية إلغاء إمكانية الحرب الأهلية، وقد شهد القرن العشرون الكثير منها. لكن معضلة الهويات الأهلية أن حروبها الأهلية مستدامة.
شكل العهد الليبرالي العربي، من أواخر القرن التاسع عشر إلى ما يقرب نهاية النصف الأول من القرن العشرين، فترة تكوّن وازدهار الهويات المدنية. قد يعود هذا إلى عاملين: أولاً استقلال الحيز الاقتصادي وتطوره عبر نشوء صناعات حديثة مما أفسح الجال لتطوير أبعاد أخرى للهوية، وهي الهوية الطبقية. فالنزاعات التي تشكلت داخل الحيز الاقتصادي تبلورت على أسس حدود طبقية تتجاوز الهويات الأهلية، فالعمال عانوا شروطاً مجحفة وتعرفوا على أنفسهم بوصفهم عمالاً في مواجهة استغلال الرأسمالي بمعزل عن طوائفهم. ثانياً، النظام البرلماني والصحافة الحرة ونشوء طبقة وسطى حديثة، وهي عوامل أفسحت المجال لتشكل مجال عام يستخدم لغة عمومية متجاوزة للأهلي.
هذا لا يعني غياب الأهلي، فهو كان حاضراً، ويمكن النظر إلى العديد من الأحزاب والحركات السياسية العربية في ذلك الزمن واستكشاف عمق حضور الأهلي فيها، لكن استقلال الاقتصاد ووجود مجال عام قدما إمكانية تطوير مجالات مستقلة نسبياً عن الأهلي، واضطر الأهلي نفسه أن يتبنى أفق ولغة لا يقتصران عليه بهدف التواصل مع الآخرين. تناقضات العهد الليبرالي، التناقض الاقتصادي والتلاعب بالنظام البرلماني والجهاز البيروقراطي لمصلحة الأعيان، كانت السبب في نهايته وتحطيمه لاحقاً على يد الأنظمة السلطوية الشعبوية. وهذه صعدت إلى السلطة عبر الانقلابات، وهو ما تحقق غالباً بالاستناد إلى عصبيات أهلية، سواء كانت هذه العصبية طائفية أو عشائرية أو جهوية أو خليطاً من كل ما سبق، كما في سورية والعراق وليبيا واليمن. حتى الأنظمة التقليدية، قامت شرعيتها على عصبية تقليدية تحمي النظام ويستند عليها.
بدءاً من النصف الثاني للقرن العشرين توسعت الدولة العربية وأممت الحياة الاجتماعية، عبر التأميم مثلما حصل مع الأنظمة الشعبوية أو عبر احتكارها لمصدر ريعي في غيرها، وبهذا احتكرت الحيز الاقتصادي وسحقت المجال العام، وصار كل شيء موضوعا للأمن القومي. أصبحت الدولة المنفذ إلى السلطة والثروة والجاه، لكن السيطرة على الدولة لم تكن ممكنة إلا من خلال العصبية والقرابة، أي الأهلي.
بتدمير المجال العام وما يرتبط به من صحافة حرة ونظام برلماني، دمرت الدولة المجال الذي يمكن من خلاله رعاية وتطوير هويات مدنية ووطنية عامة متجاوزة لخبرة الأهلي، التي تتمثل في الخبرة اليومية للحي والأندية وشلل الأصدقاء أو حتى شبكات الواسطة والمعارف التي تسند علاقات العمل، وهي كلها تقوم على أساس من الصلات القرابية والطائفية.
في مقابل الخبرة اليومية للأهلي، تبدو خبرة الهوية الحديثة متجاوزة وأكثر تجريدية وأقل يومية، فهي تستدعي «جماعة» أو أناساً لا يحضرون مباشرة في سياق العلاقات اليومية، مثل خبرة «الأمة» التي تستدعي جماعة متخيلة تتجاوز علاقتنا اليومية ولا تحضر إلا في سياق واسع للمجال العام الذي خلقته الطباعة، كما ساجل بنديكت أندرسون. يصدق هذا على خبرة الطبقة التي لا يمكن بلورتها إلا في سياق الصراع الطبقي نفسه، وبغياب استقلال الاقتصادي ومنطقه واستبداله بريعية الدولة التي تقوم بتوزيع الريع وتحول الوظيفة إلى شكل من أشكال العطاء وشراء الولاء، فإن الهوية الطبقية لن يكون لها دور. الدولة باحتكارها للاقتصادي صارت هي الطريق إلى الثروة، والأخيرة لا تُكتسب إلا عبر علاقات مع الدولة من أجل الحصول على تعهدات أو رخص استيراد وتصدير أو حتى على منصب حكومي يسمح لصاحبه بالرشوة أو في الحد الأدنى بوظيفة ومعاش. هذا النمط من العلاقات عزز العلاقات الأهلية الممثلة بشبكات الزبونية بين رجال الدولة وجماعاتهم.
لم تكن الدولة العربية، الريعية والشعبوية، دولة حديثة بالمعنى المعياري تعبر عن مجتمع مدني وتسعى إلى بناء أمة، بل على العكس كانت راعية الأهلي وحاميته.
* كاتب سوري | |
|