| | التاريخ: شباط ١١, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | الليبراليون العرب وإسرائيل: الرخاوة ودمارها - خالد الحروب | كما هي سائر الأفكار والنظريات والأيديولوجيات الكبرى ليس ثمة تعريف واحد أو شكل موحد أو تطبيق حصري للفكرة الليبرالية. بل تختلف تبعاً للسياق هنا، أو لمناصريها هناك، وفي كل الحالات يعكس تبنيها وتطبيقها عمق أو ضحالة فهمها أو ما بينهما. في أصلها أوروبي المنشأ، ومنذ القرن السابع عشر على الأقل نهضت الأفكار الليبرالية على الضد من الاستبداد والإقطاع والملكية وعلى الضد من تحالف أولئك جميعاً مع الكنيسة. انتصرت الليبرالية للفرد والفردانية مقابل الطائفة والقبيلة والدولة المُستبدة، وللحرية مقابل الاضطهاد، وللعقلانية مقابل الدين، وللعدالة مقابل الإجحاف، وللمنافسة مقابل الادعاء بالتوافق القسري. في تمثلاتها غير الأوروبية استبطنت الليبرالية ما هو مُلح في المكان والزمن المعنيين على قاعدة العدالة والحرية، ففي أميركا الجنوبية تحالفت مع القومية والتحرر الوطني لأن الهمّ الطاغي لشعوب القارة في القرنين الثامن والتاسع عشر كان التخلص من أنواع الاستعمار المختلفة، الأميركي الشمالي والإسباني والبرتغالي. في الولايات المتحدة ذاتها حيث لم تكن هناك ملكية أو إقطاع للثورة ضدهما أتيح لليبرالية أن تأخذ طابعاً محلياً خاصاً، سرعان ما غلب عليه المكون الاقتصادي والرأسمالي، مُستنداً إلى حرية التملك وإعلاء قيمة المنافسة.
لكن ثمة جانب مظلم لليبرالية أو توظيفاتها في المشروعات الكولونيالية، حيث قدمت للقوة المُستعمرة العتاد الفكري والتنظيري لإدامة استغلالها واحتلالها للبلدان الواقعة تحت الاستعمار. وتلخص ذلك، تجنباً للإطالة، في استخدام بعض جوانب الفكرية الليبرالية كمسوغ للحملات الاستعمارية ضد السكان الأصليين من أستراليا والهند إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية، بغية نقلها من مرحلة التخلف الذي تعيش فيه إلى مرحلة التقدم والحداثة. بيد أن ما يهمنا هنا هو التأكيد على أن جوهر الفكرة الليبرالية، وبعيداً عن توظيفها لمصالح قوى غاشمة، يحوم حول الحرية والعدالة والوقوف ضد الاستبداد وتحالفه مع الكنيسة والدولة الدينية. وفي مقابل تقديس الواقعية السياسية فكرة أولوية الدولة واستقرارها وقبول استبدادها ولو على حساب الفرد، قدست الليبرالية حرية الفرد مقابل الدولة وبطشها. ومقابل تعزيز «النظام والأمن» ولو على حساب «العدالة» كما في المفهوم الواقعي، انحازت الليبرالية للعدل والديموقراطية.
هذا بإيجاز (مُخل) إضاءة على أهم جوانب الفكرة الليبرالية ضمن سياق الدولة أو الـ nation state. أما على مستوى العلاقات بين الدول، فإن ما طرحته الليبرالية من أفكار بغية تنظيم تلك العلاقات كان على الدوام أكثر إنسانية من أفكار الواقعية السياسية القائمة على الهوبزوية التي تفترض انخراط البشر والدول في حالة دائمة ومتأبدة من الصراع، وأن الحرب هي الشرط المُؤسس لعلاقات الدول بين بعضها البعض. نقضت الليبرالية (الكانتيه أولاً) أفكار توماس هوبز التي تستسلم لنظرية الصراع الدائم ضد الكل، وأعلت في المقابل من فكرة السلم والتعاون وجادلت بأن الطبيعة البشرية تنزع نحوهما وتعززهما بالتوازي مع تقدم البشرية. وطرحت مفهوم السعي نحو «السلم العالمي» الذي تُرجم لاحقاً وبعد الحرب العالمية الأولى من خلال أفكار «إنهاء الاستعمار» و «حق تقرير المصير» التي تبنتها عصبة الأمم، واستمر بعد الحرب العالمية الثانية عبر الأمم المتحدة. ويعني «حق تقرير المصير» رفض احتلال أراضي الشعوب الأخرى بالقوة، وإحالة تقرير مصير أي شعب واقع تحت الاحتلال إليه نفسه، حيث يقرر عبر الاستفتاء أو أي طريقة اخرى مصيره واستقلاله.
استناداً إلى ما سبق، كيف ستكون نتيجة تطبيق المبادئ الليبرالية الأساسية مثل «الحرية» ومعاداة «الاستبداد» ومعاداة «الدولة الدينية» وأولوية «العدالة» و»حق تقرير المصير» و»التخلص من الكولونيالية» على المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن يتأملها بعض العرب المهووسيين اليوم بإسرائيل سواء أكانوا ليبراليين أو غيرهم. يأتي هذا الكلام على خلفية زيارة الليبرالي المصري سعد الدين إبراهيم لإسرائيل وإلقائه محاضرات في جامعاتها، والتي أثارت ضجة ونقداً شديدين من الطلبة الفلسطينيين الذين اتهموه بالخيانة، وأيضاً على خلفية زيارة عدد من الصحافيين العرب في الأسبوع الماضي. والمدهش أن مثقفاً وأكاديمياً بوزن إبراهيم يخونه سوء التقدير إلى حد العماء وعدم رؤية الصورة من كافة جوانبها، بما يورطه في هكذا زيارة. ولا حاجة لجهد استثنائي ولا عبقرية بحثية للخلوص إلى أن إسرائيل دولة عنصرية تدوس على كل القيم الليبرالية والإنسانية التي يمكن أن ترد على البال. وهي دولة الأبارتهايد العنصري الوحيدة الموجودة على وجه الأرض، وضحاياها ليس فقط الفلسطينيين بل وأيضاً كل المبادئ والقيم الليبرالية مثل الحرية والعدالة وحق تقرير المصير وغيرها.
بعض من ينسبون أنفسهم إلى الليبرالية من صحافيين ومثقفين عرب يتورطون في فضح ضحالة وعيهم عبر ترديد واجترار مقولات سطحية تحوم حول الانبهار بإسرائيل وقوتها وعلومها ونظامها و»ديموقراطيتها»، وغير ذلك مما اتصفت به دوماً القوى الاستعمارية الكبرى عندما بطشت بشعوب ودول هنا وهناك. ثم يديرون أولئك المنبهرون وجوههم حتى لا يروا ما وراء الصورة البراقة من بطش بشعب بأكمله، وعنصرية مترسخة ليس ضد الفلسطينيين وحسب بل وضد الأفارقة اليهود أيضاً، وضد كل من لا يتوافق مع المشروع الصهيوني العنصري ذاته بمن فيهم اليهود غير الصهيونيين. ويديرون وجوههم أيضاً عن حقيقة أن الدولة التي وقعوا فجأة في غرامها هي دولة دينية قائمة على أكثر التفسيرات تعصباً وغلواً في الديانة اليهودية، وبذلك فهي المثال الحي على الدولة القروسطية الإقطاعية المُتحالفة مع الكنيسة والتي قامت ضدها كل الثورات. ليس هذا فحسب بل أن الدعم الخارجي الأكبر والأضخم لهذه الدولة يأتي أيضاً من قاعدة دينية متعصبة، أي قاعدة المسيحية- الصهيونية التي أفرزت على مدار القرنين الماضيين أسوأ التصورات الدينية ذات العلاقة بفلسطين، وآخر إنتاجاتها الرئيس الأميركي ترامب ونائبه بنس. وهذا الأخير غرس أعواداً في عيون كل مناصري إسرائيل والمعجبين بـ «حداثتها» عندما ألقى خطابه الأصولي الديني في الكنيست الإسرائيلي أخيراً، وقال إن قيام إسرائيل هي معجزة الرب، وهو نفسه الذي كان قد كرر أكثر من مرة أن الولايات المتحدة ستحظى بمباركة الرب طالما ظلت تدعم إسرائيل، وأن كل من يعادي إسرائيل يحظى بغضب الرب. أين يموضع أي ليبرالي أو حداثي هذه المقولات الصهيو- أميركية الرسمية التي ترسم السياسة الخارجية للدول تبعاً للهوس الديني المسيطر في دوائر صنع القرار في واشنطن وتل أبيب؟
وهنا ثمة مفارقة كبيرة يطرحها غرام بعض مسطحي الليبرالية العرب بإسرائيل، فهؤلاء جميعاً منخرطون في معارك طويلة عريضة ضد «الأصولية الدينية» في بلدانهم، وضد خلط الدين بالسياسة (وهو موقف مدني ومطلوب)، والبعض منهم تدرج في تلك المعارك الى درجة التحالف مع أنظمة مُستبدة لا علاقة لها بالليبرالية والتعددية من قريب أو بعيد. لكن عداءهم لـ «الأصولية الدينية» والذي يستأسدون في إظهاره في بلدانهم يختفي تماماً عند الحديث عن إسرائيل التي تصبح فجأة بلداً متحضراً وتطرح نموذجاً براقاً. ما يغيب عن هؤلاء أو يحاولون تغييبه أن إسرائيل اليوم تُقاد وتُحكم من قبل «يمين اليمين» الديني المُتمثل في دولة المستوطنين، وهي الدولة التي لا ترى إلا من خلال منظور ديني مُغلق وعنصري، وترى الفلسطينيين والعرب والعالم أجمع بشراً من درجة أدنى، ولليهود الحق في فعل أي شيء ضدهم إن لزم الأمر. في إسرائيل- التي ينبهر بها بعض العرب- خطاب وسياسة داعشية ولغت بدم الفلسطينيين لكنها ماهرة في إخفاء جوهرها وراء المظهر الخادع وربطات العنق. ليتأمل المهووسون بإسرائيل الديموقراطية والحضارية في بعض المقولات الموثقة لقادة ووزراء إسرائيليين: يقول بنجامين نتانياهو رئيس الوزراء «يجب أن ندافع عن أنفسنا ضد هذه الحيوانات المتوحشة (الفلسطينيين)، ويقول وزير الدفاع الإسرائيلي «يجب أن نقطع رؤوسهم هؤلاء الذين يعادوننا»، ويقول نائبه إيلي بن داهان «الفلسطينيون حيوانات»، وتقول وزيرة العدل إيليت شيكد عن أمهات الفلسطينيين «يجب أن يتم التخلص منهن ومن بيوتهن حيث يقمن بتربية الأفاعي (عن الأطفال الفلسطينيين)، وإلا فإن المزيد من الأفاعي سوف تتربى هناك»، ويخاطب إيلي يشاي، النائب السابق لرئيس الوزراء، الجيش الإسرائيلي قائلاً «ارجعوا غزة إلى العصور الوسطى»، كما وصف وزير الدفاع السابق موشيه يعالون الفلسطينيين بأنهم مثل «السرطان» الذي تكون معالجته عبر الاستئصال.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني | |
|