التاريخ: كانون ثاني ٣٠, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
المؤرّخ محمود عباس - عبير بشير
شهدت اجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني في دورته الثامنة والعشرين خلافات حادة بخصوص ما يجب أن يتضمنه بيانه الختامي، سواء حول سحب الاعتراف بإسرائيل، أو بإنهاء اتفاق أوسلو، أو بوقف التنسيق الأمني. وصولاً إلى تفعيل هياكل ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية! 

وخرج بيان المركزي في الختام - توافقيا - ليعلن نهاية أوسلو، وتعليق الاعتراف بإسرائيل، إلا أن تعترف الأخيرة بالدولة الفلسطينية...، وتكليف اللجنة المركزية لمنظمة التحرير، بتنفيذ تلك القرارات دون أن يحدد جدول زمني ملزم بذلك أو يحدد آلية التنفيذ.

نقطة الضعف الكبرى في كل ما جرى في أروقة اجتماع المركزي، كانت مسألة ترتيب البيت الفلسطيني ليس فقط فيما يتعلق بآليات تفعيل وتطوير منظمة التحرير، ولكن الأهم البحث في ترتيبات انخراط الكل الفلسطيني في نظام سياسي ديمقراطي واحد وموحد، يكرس الدستورية والديمقراطية ومبادئ الشركة الوطنية، وأسس التوافق الوطني، بما يضمن استقرار النظام السياسي الفلسطيني وديمومته. كما لم تعالج اجتماعات المركزي بما فيه الكفاية مسألة المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، والتي هي بمثابة قانون أساسي للتحرر الوطني والاستقلال الوطني، وهي ضمانة المسؤولية المشتركة للدفاع عن الوطن والحقوق المسلوبة. وذلك في ضوء المستجدات الخطيرة الأخيرة، والتي هي في الواقع ليست مجرد عقبات جديدة، أو حتى مختنق تفاوضي، وإنما هي تمثل حالة انقلاب سياسي استراتيجي كبير، ومتغير هائل في طبيعة المرحلة، بعد انتقال الولايات المتحدة من دور الوسيط المزعوم لتحقيق السلام إلى دور المساهم المباشر في تصفية القضية الفلسطينية، وذلك بعد إعلان واشنطن - ترامب اعترافها بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وانخراط الإدارة الأميركية في المشاركة المباشرة في تحويل سياسات الأمر الواقع التي تقوم بها إسرائيل إلى حقائق سياسية غير قابلة للتفاوض سواء تعلّق الأمر بالأرض أو حق العودة أو القدس.

وليس أدل على ذلك التواطؤ الأمريكي بشأن حق العودة، من مشاركة إدارة ترامب في تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، عبر تجميد المساعدات الأمريكية للأنروا، وذلك تمهيدا لشطبها، تماهيا مع الاعتبارات والتوجهات الإسرائيلية، فقد تمحورت تصريحات نتنياهو المتكررة حول خطورة بقاء ووجود وكالة غوث وتشغيل اللاجئين على الاستقرار في المنطقة وكان آخر تلك التصريحات في مستهل جلسة الحكومة الإسرائيلية، حيث قال نتياهو: الأونروا منظمة تخلد قضية اللاجئين الفلسطينيين وكذلك تخلد رواية ما يسمى بحق العودة، و"يبدو أن دور الأونروا يهدف إلى تدمير دولة (إسرائيل) ولذا فيجب على الأونروا أن تتلاشى وتزول"..

 إلى مخرجات المجلس المركزي، يرى تيار من الفلسطينيين - يحاكم النصوص - بأن قرارات وتوصيات المجلس المركزي لا ترتقي إلى مستوى المجابهة المطلوبة أمام تحديات ومخاطر التصفية التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، من إعلان ترامب بشأن القدس وما تلاه من إجراءات إسرائيلية بتصعيد الموقف إلى تخوم المواجهة الشاملة السياسية والميدانية والاستيطانية مع الفلسطينيين.

غير أن هناك تيار أوسع من الفلسطينيين، يدرك صعوبة إجراء انقلاب شامل وجذري في سياسات واستراتيجيات السلطة الفلسطينية، حيث أن الوضع الفلسطيني بما هو عليه على مختلف الصعد، لا يستطيع حمل الأعباء المترتبة على تنفيذ قرارات راديكالية، فضلاً عن الحاجة لإبقاء ظاهرة التضامن الدولي ولو بحدودها الدنيا مع الشعب الفلسطيني. وفي هذا الإطار يتحدث مسؤولون في السلطة، بأن المجلس المركزي أعلن عن إنهاء مرحلة أوسلو، وعن بداية البحث عن مسار آخر، لكننا لن نغامر بالدم الفلسطيني...، ونحن مع المقاومة الشعبية، وليست العسكرية، لأننا لا نريد أن نكرر تجربة غزة التي وصلت إلى مرحلة لم تعد قادرة على توفير الكهرباء والمياه للمواطنين..

وجاءت كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس - النارية - في اجتماعات المركزي واضحة وصريحة فيما يتعلق بعدم تأمين غطاء فلسطيني لصفقة القرن الترامبية، ولكل المواقف التي تبحث عن التعايش مع قرار ترامب حول القدس، ورفض البدائل كقبول بأبو ديس عاصمة بديلة عن القدس، وللتطبيع المجاني مع دولة الاحتلال، بالإضافة إلى البدء بتجاوز الاحتكار الأميركي للعملية السياسية والوساطة عبر رفض الدور الأميركي - منفردا - كوسيط وراعٍ للتفاوض الفلسطيني الإسرائيلي بعد قرار ترامب حول القدس والانحياز الأعمى لإسرائيل، والدعوة لاستبدال الرعاية الأميركية برعاية دولية، إضافة إلى الرفض الفلسطيني للضغوط والتهديدات والعقوبات الأميركية والإقليمية التي هدفها اختراق وتطويع الموقف الفلسطيني. وتحدث الرئيس أبو مازن عن "كلفة القرار الوطني المستقل"، و"ثمن" التصدي لمشروع ترامب المكرس لخدمة مصالح الدولة المارقة - إسرائيل -.

وربما لهذا السبب بالذات، توقفت صحافة الاحتلال مطولاً عند "السردية التاريخية" التي تناولها خطاب أبو مازن وأعاد فيها نبش تاريخ الرواية الصهيونية بأحقيتها بأرض فلسطين، ورأت فيها سعياً فلسطينياً حثيثاً لنزع "الشرعية" عن "دولة اليهود"، حيث أماط الرئيس محمود عباس اللثام مجدداً، ونفض الغبار، عن "المشروع الصهيوني" بوصفه رأس حربة لمؤامرة استعمارية - إمبريالية متكررة ومتعاقبة، بهدف السيطرة على هذه المنطقة من العالم، وأن لا صلة لها لا باليهود، كشعبٍ وأتباع ديانة، والمؤكد أنها مشتقة عن حكاية "الحق الديني والإلهي" وكافة الأساطير المؤسسة للرواية الصهيونية.

ولم يكن الأمر ترفاً فكرياً أو ميلاً إلى الخطابة المنبرية، ولكن كان هذا الخطاب غير المسبوق في سرديته التاريخية بهذا التكثيف، محاولة لإعادة تأصيل الوعي بما حدث في الماضي، لكي تستطيع الإستراتيجية الفلسطينية السيطرة على المستقبل والوصول إلى الهدف. فلقد تم اختراع إسرائيل على أيدي أقوياء العالم في حقبة تحول الرأسمالية إلى استعمار، لذا فإن إسرائيل التي وُلدت من رحم الموجة الاستعمارية، وأقيمت من الخارج وبقوة هذا الخارج على حد سواء، وما زالت تحمل سمات قوة هذا الخارج فإن مصيرها ومستقبلها هو رهن إرادة وموقف هذا الخارج. ولاحظ باحث وبروفيسور أميركي في كتاب حمل عنوان "اختراع إسرائيل التوراتية"، من انه ما لم يعاد طرح النقاش إلى هذه الجذور التاريخية لإنشاء إسرائيل، فانه لا يمكن إنهاء هذا الاحتلال وحل الصراع.

وتميز خطاب "أبو مازن" بنبرة وطنية شديدة الحساسية لاستقلالية القرار الوطني الفلسطيني، إذ أعاد الاعتبار للاستقلالية الوطنية الفلسطينية، وذكرنا بفصول من الصراع على التمثيل الفلسطيني، سبق قيام إسرائيل وأعقبها، وسبق انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة وأعقبها. وقد رسم تخوما مع "صفعة القرن"، سيجد الكثيرين أنفسهم مضطرين للوقوف عندها. وأكد أحد مستشاري الرئيس الفلسطيني، بأننا نعي حجم الضغوط الهائلة علينا، ولكن لدينا نقطة قوة جوهرية، وهي القلم الذي ستوقع فيه الاتفاقات. وأوضح أن الرئيس محمود عباس لن يوقع شيئاً، وبالتالي لن ينجحوا في تمرير المؤامرة.