| | التاريخ: كانون ثاني ٣٠, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | عن مكانة فلسطينيي 48 في العملية الوطنية - ماجد كيالي | لم يترك الفلسطينيون طريقاً إلا وسلكوه في مقاومتهم المديدة، العنيدة والمعقّدة والمضنية، ضد إسرائيل، بمختلف تجلياتها الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والأيديولوجية، من الكفاح المسلح إلى المفاوضة، مروراً بالمفاوضة وأشكال المقاومة الشعبية، وصولاً حتى إلى المشاركة في الكنيست الإسرائيلي.
هكذا، فإن حادثة إخراج الأعضاء العرب من اجتماع الكنيست الإسرائيلي (22/1)، بالقوة، من دون إبداء أي احترام لعضويتهم في الهيئة المذكورة، إبان احتجاجهم المشروع على كلمة مايك بنس نائب الرئيس الأميركي، والتي تضمّنت إصرار الإدارة الأميركية على الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، سلّطت الأضواء، مجدّداً، على الأشكال المختلفة والمتباينة لكفاح الفلسطينيين، ولاسيما على مكانة فلسطينيي 48 في إسرائيل، وأشكال كفاحهم من أجل حقوقهم.
على ذلك، فإذا كانت تجارب الكفاح المسلح الفلسطيني في الخارج، في الأردن وسورية ولبنان (1965ـ1982)، ثم في الداخل، في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع تجربة الانتفاضتين الأولى (1987ـ1993) والثانية (2000ـ2004)، وصولاً إلى التجربة التفاوضية (منذ 1993)، وتجارب الكيانات السياسية، أيضاً، لا سيما منظمة التحرير بفصائلها (منذ 1964) وإقامة كيان السلطة في الضفة والقطاع (منذ 1994)، إذا كانت كلها تلخّص تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، لما بعد النكبة، فإن تجربة فلسطينيي 48 لم تؤخذ في ذات الاعتبار، في الأدبيات السياسية الفلسطينية السائدة، بل إنها ظلّت كأنها خارج التجربة الوطنية الفلسطينية، أو على هامشها في أحسن الأحوال.
بديهي أننا إزاء حالة غريبة، واستثنائية، أي استبعاد تجربة جزء من ذات الشعب، أو تهميشها، بدل احتضانها وإغنائها والاستثمار السياسي فيها، وهذه من أعراض أزمة التجربة الكفاحية للفلسطينيين، وقصورها.
ربما تمكن إحالة ما تقدم لأسباب عدّة، أولها، أن التجربة الكفاحية الفلسطينية في الداخل كانت أسبق من مثيلتها في الخارج، لكن مشكلتها أنها لم تستطع أن تعمّم خاصّيتها، كونها انطلقت من الاعتراف بواقع إسرائيل، والإقرار بالمواطنة فيها، باعتبار ذلك الثمن اللازم للبقاء في الوطن، بدل التشرّد واللجوء، وترك البلد للمستوطنين اليهود، وتالياً الاستجابة لطموح إسرائيل بإقامة دولة يهودية خالصة. طبعاً، تأتي ضمن ذلك حالة العزلة التي فرضتها الأنظمة العربية على فلسطينيي 48 باعتبارها إياهم إسرائيليين، من دون أن يعني ذلك أنها نظرت الى اللاجئين الفلسطينيين بين ظهرانيها بطريقة أفضل، على ما نعلم. وثانيها، أن تجربة فلسطينيي 48 لم تعتمد إطلاقاً الكفاح المسلح ضد إسرائيل، لا بعد النكبة الأولى (1948)، ولا بعد النكبة الثانية/ «النكسة» (1967)، ولا إبان الانتفاضة الثانية، على نحو ما حصل في التجربة الفلسطينية الفصائلية في الخارج، ثم في الداخل في الضفة وقطاع غزة (إبان الانتفاضة الثانية حصراً)، ذلك أن الهوس بالكفاح المسلح، أو اعتباره المخلّص من إسرائيل، شكل هوًى عاماً، في المنطقة، التي سادتها الشعارات العاطفية والإرادوية والثأرية. وهذه الملاحظة تفيد بأن الكفاح المسلح لم يكن محط إجماع فلسطيني، على ما يتم الادعاء، إذ يفترض التنبيه الى أن ذلك لا يقتصر على التجربة الكفاحية لفلسطينيي 48، وإنما هو يشمل فلسطينيي (1967) الذين عرفوا هذا التجربة بعد إقامة السلطة، أي مع عودة الفصائل إلى الداخل، وفي تجربة الانتفاضة الثانية، وليس الأولى، ما يعني أن تجربة الكفاح المسلح هي وليدة التجربة الفلسطينية في الخارج، بعلاقاتها بالنظام العربي السائد. وثالثها، أن هذه التجربة بأرصدتها الكفاحية ظلت خارج المعادلات السياسية في الصراع الفلسطيني ضد إسرائيل، أو خارج دائرة الاستثمار السياسي للحركة الوطنية الفلسطينية، بحكم التمايز بين الحركة السياسية لفلسطينيي 48 والحركة السياسية للفلسطينيين عموماً، أي باقي الفلسطينيين، في الضفة والقطاع وبلدان اللجوء، مع علمنا أن الحركة الوطنية لفلسطينيي 48 اشتغلت وفقاً للمتاح، في القانون الإسرائيلي للحفاظ على المواطنة، وأن الحركة الوطنية الفلسطينية المتمثلة في منظمة التحرير لم تشتغل على خلق المعادلات ولا الإطارات السياسية التي تمكّن فلسطينيي 48 من التشبيك مع الحركة الوطنية الفلسطينية عموماً، مع ملاحظتنا أن هذه الأخيرة اختزلت أهدافها، أيضاً، في إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين (1967)؛ أي أنها بدورها أخرجت اللاجئين من معادلاتها، بل إنها منذ توقيع اتفاق أوسلو وإقامة السلطة اختزلت شعب فلسطين وحقوقه بفلسطينيي الضفة والقطاع وحقهم في إقامة دولة لهم في هذه الأراضي، في إبداء نوع من التساوق مع الرواية الإسرائيلية باعتبار أن الصراع بدأ باحتلال 1967 وليس بسبب النكبة (1948). ورابعها، أن أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ قيامها، كانت شاملة، إذ كانت تنطلق من تحرير فلسطين، أو إقامة دولة ديموقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني، بتقويض إسرائيل ككيان استعماري استيطاني عنصري، في حين أن الحركة السياسية لفلسطينيي 48 كانت تتركّز، وفق التجربة، في الكفاح من أجل المواطنة والمساواة والحفاظ على هويتهم الوطنية والقومية، ضد مشاريع الأسرلة، في هذه الدولة، التي قامت في 1984 على حساب الشعب الفلسطيني، ثم في الكفاح، أيضاً، من أجل السلام، بإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية (1967) والاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في دولة مستقلة في تلك الأراضي.
وكما هو معلوم، فإن الفلسطينيين عاشوا قرابة عقدين في ظل الحكم العسكري الإسرائيلي (1948ـ1966)، وأنهم في غضون ذلك أنشأوا كيانات سياسية مثل «راكح» أو الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة، وحركة «الأرض» و «أبناء البلد»، و «الحركة الإسلامية»، و «التجمع القومي الديموقراطي»، و «الحركة العربية للتغيير»، وأن غالبية كياناتهم تبنت أهداف منظمة التحرير بعد تحولها إلى البرنامج المرحلي، المتعلق بحق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الديموقراطية، كما شاركوا بطريقة أو بأخرى في دعم كفاح الفلسطينيين في الضفة وغزة، بطرق مختلفة، لاسيما في فترة الانتفاضتين الأولى والثانية. يتبيّن من كل ما تقدم أننا إزاء تجربتين مختلفتين ومتباينتين، في المنطلقات والأهداف، لشعب واحد، تعرض للتمزيق، والخضوع لسيادات دول وسلطات مختلفة، وهذا ليست له علاقة فقط بفكرة داخل وخارج، إذ يفترض أن نلاحظ أن هذا الأمر استمر على الوتيرة ذاتها، بعد احتلال إسرائيل الضفة والقطاع، أي على رغم توحد ظروف فلسطينيي الضفة والقطاع وفلسطينيي 48، وخضوعهم لسلطة واحدة، هي إسرائيل، وأنه لم يتمّ إيجاد نوع من مقاربة بين التجربتين، مع كل التقدير للعلاقات التي نشأت بين المكونات السياسية لفلسطينيي 48 وكيانات «منظمة التحرير».
على جانب آخر، فإن إسرائيل ظلت تنظر إلى فلسطينيي 48 باعتبارها وجودهم نتاجاً لغلطة تاريخية، أي كان ينبغي ترحيلهم إبان النكبة، وأن وجودهم بمثابة عبء على إسرائيل، وقيد على تحولها إلى دولة يهودية، لا سيما أن عددهم اليوم بات مليوناً ونصف المليون، إضافة إلى أن وجودهم يضع إشارة استفهام حول كونها دولة ديموقراطية، لذا بديهي أن تنظر إليهم وفق مصطلحات القنبلة الديموغرافية. ويتبين من ذلك في المحصلة أن إسرائيل تعاملت مع المواطنين الفلسطينيين فيها كفائض عن الحاجة، وكعبء سياسي وأخلاقي وأمني وهوياتي، أي كقيد على تحولها إلى دولة يهودية خالصة، كما تعاملت معهم كجماعات هوياتية، وكمسلمين ومسيحيين ودروز وبدو، إضافة إلى محاولاتها فرض مسارات من الأسرلة عليهم، وفق رؤيتها لكل جماعة، كما بقدر قابلية كل جماعة لذلك.
أما على صعيد الكنيست، فقد استطاع فلسطينيو 48 تحويل الكنيست إلى منصة للدفاع عن حقوقهم، وهويتهم العربية، لكن كل ذلك ظل تحت السقف المسموح به، باعتبار إسرائيل دولة يهودية و «ديموقراطية»، بالنسبة الى مواطنيها اليهود، على ما في هذا النص من تناقض، وعلى ما ينطوي عليه من عنصرية إزاء المواطنين العرب. وبديهي في هذه الحال أن عضو الكنيست كان فائضاً عن الحاجة، وكمنّة من «الديموقراطية» الإسرائيلية لمن يفترض أنهم مواطنوها من العرب. وفي العموم، فإن الكنيست الإسرائيلي لم يظهر يوماً باعتباره مكاناً لإنصاف حقوق المواطنين العرب في إسرائيل، باعتبارهم أهل الأرض الأصليين، إذ تمّ اعتبارهم دوماً كأغيار، أو كمواطنين من درجة دنيا.
والحال، فإن الفلسطينيين اليوم مطالبون بإيجاد الصيغ التي تعيد الاعتبار لهم كشعب واحد، لا سيما أن الفلسطينيين في 48 وفي الأراضي المحتلة 1967 يخضعون للسلطة ذاتها، التي تحاول تكريس التفرقة بينهم، من خلال اعتماد قوانين مختلفة، ومن خلال فرضها مكانة مختلفة لكل تجمع منهم، فثمة مكانة المواطنة في 48 ومكانة المقيم في القدس ومكانة الخاضع لسلطة الاحتلال في الضفة. طبعاً ليس القصد تجاهل تلك التباينات وإنما القصد الاستثمار فيها، على ألا يفتح ذلك على سرديات أو إدراكات أو منطلقات أو أهداف سياسية مختلفة أو في مواجهة بعضها. مطلوب أيضاً من فلسطينيي 48 مناقشة جدوى البقاء في الكنيست، وفي مكانة الديكور، لكيان استعماري استيطاني عنصري.
وهذه تحية لهذا الجزء الحي والصامد من شعبنا الفلسطيني في 48، في اليوم العالمي لدعم نضال الفلسطينيين في إسرائيل الذي يصادف اليوم (30 كانون الثاني- يناير).
* كاتب فلسطيني | |
|