| | التاريخ: كانون ثاني ٢٨, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | القضية الكردية بدلالة عفرين - عمر قدور | هناك الكثير مما جرى تداوله عن صفقة تطلق يد تركيا في عفرين، مقابل تسليم قسم كبير من إدلب للنظام. في المقابل، هناك تكهنات تنوس بين كون العدوان التركي على عفرين فخاً لأردوغان أو كونه تحجيماً للأوجلانيين، أو ربما حرب استنزاف للطرفين. هذا كله لا يلامس القضية الكردية في سورية في مأزقها الحالي، أو في متاهتها المزمنة، وقد لا نجازف بالقول إن حجم الكراهية المتبادل بين الأكراد والعرب على وسائل التواصل الاجتماعي يكشف عمق القضية الفعلي، ولا يجوز النظر إليه كردّ فعل غرائزي موقت.
عندما تتحدث أنقرة عن محاربة الإرهاب الذي يحكم عفرين فهي لا تلقي كلاماً في الهواء، وإنما تخاطب في المقام الأول حلفاء غربيين يُدرجون حزب العمال الكردستاني على لوائح الإرهاب، هكذا هي الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وليس من باب تبرير العدوان التركي التأكيد على أن من يقود عمليات وحدات الحماية الكردية في سورية هم قادة أتراك من حزب العمال، والاستخبارات التركية لديها لوائح كاملة بأسمائهم ونشاطاتهم، وقد خرج إلى العلن استنكارها لقاء مستشارين عسكريين أميركيين بهم على الأراضي السورية. أكراد سورية أنفسهم يعلمون أن القرار الفعلي هو لقيادات جبل قنديل، وأن وراء كل مسؤول رفيع في أيّ من الكانتونات المعلنة مسؤولاً كردياً تركياً هو بمثابة المسؤول الحقيقي.
مرة أخرى، الاعتراف بهذه الوقائع المعروفة على نطاق واسع لا يهدف إلى تبرير العدوان التركي على عفرين، ولننسَ في هذه المناسبة سوريّة الأخيرة بما أن هذه الرابطة مع وقف التنفيذ. الأمر إذا شئنا أم أبينا يتعلق بالارتباط الوثيق بين القضيتين الكرديتين في تركيا وسورية، بل بالأحرى اعتبارهما قضية واحدة من قبل شريحة واسعة من الأكراد، وفهم ذلك على النحو ذاته من قبل شريعة واسعة من عرب سورية.
وإذا كان للقضية الكردية في تركيا اكتفاؤها الذاتي، بمعنى اشتغالها ضمن نطاق جغرافي وديموغرافي واضح ومحدد ومتصل، فنظيرتها السورية يعوزها الاكتفاء بحكم الواقع الجغرافي وعدم وجود اتصال بين مناطق الوجود الكردي. هذا يجعل من القضية الكردية السورية مقطعة الأوصال مفهومياً أيضاً، فغالبية مطالبات الأحزاب الكردية تنص على الحصول على الحقوق القومية بما فيها حق تقرير المصير، مع التأكيد على عدم رغبة الأكراد في الانفصال.
المطالبات الكردية تُفهم على نطاق واسع على الشكل التالي: لا يستطيع أكراد سورية المطالبة بالانفصال، حتى إذا افترضنا موافقة بقية السوريين عليه. فالكيان الكردي الناشئ سيكون مقسوماً إلى قسمين تفصل بينهما مساحة شاسعة، عفرين بمفردها قسم منهما، فضلاً عن المعاداة المحسومة سلفاً للجار التركي. لذا لا معنى للإصرار على حق تقرير المصير مع تعليق استخدامه سوى ترقّب ما ستؤول إليه القضية الكردية في تركيا. وفق ذلك، لن تكون هناك دولة سورية بالمعنى الراسخ والمستدام، بالطبع إذا قامت هذه الدولة على أنقاض الصراع الحالي، ما دامت تنتظر مع جزء من مواطنيها مآل قضيتهم في بلد آخر.
للتحايل على معضلة التواصل الجغرافي، عمدت الميليشيات الكردية بعد الثورة إلى محاولة قضم الشمال السوري كله متضمناً مساحات واسعة ذات غالبية عربية خالصة، ولم تُجابه برفض شعبي كردي، بل حظيت بمباركة شبه جماعية، بما في ذلك مباركة انتهاكات موصوفة مثل التغيير الديموغرافي وتكريد أسماء المدن والقرى وصولاً إلى التمثيل العلني بجثث الخصوم. سياسياً، تدلل المباركة على وعي للمأزق الكردي السوري، أكثر من دلالاتها على إطاحة العوامل الإنسانية والأخلاقية، واستحضار المظلومية الممتدة الكردية مقابل ارتكابات الميليشيات لا يحمل رغبة الثأر إلا على السطح فحسب.
حزب العمال الكردستاني الذي يعي أهدافه، ويعي الأحلام أو الأوهام القومية «سمّها ما شئت» لنسبة معتبرة من الأكراد، يخوض معركته في إطار متكامل ووفق أدبيــــاته التي تنص على مركزية القضية الكردية في تركيا. وقوف الحزب ضد استقــــلال إقليم كردستان يمكن فهمه ضمن هذا الإطــــار، فاستقلال الإقليم لن يتحقق في النهاية إلا على أرضية حسن الجوار مع أنقـــرة، وذلك يتطلب إنهاء وجود حزب العمـــال في الإقليم بجناحيه العسكري والســـياسي، مع عدم إهمال ما يمكن تسميته تنافساً بين البارزانية والأوجلانية في الوجدان الكردي كان سيرجّح كفة الأولى لو نجحت تجربة الانفصال، ومن المؤكد أن موقف أنقرة العدائي من الاستفتاء يصب في مصلحة خصمها الأوجلاني.
تقاذف الاتهامات اليوم، بين من يقولون «مرتزقة أردوغان» ومن يقولون «مرتزقة أوجلان»، لا يحظى بأية أحقية طالما أنه ينبع من رابطة وطنية غير معترف بها أصلاً، والأقرب إلى الواقع أن الطرفين يفهمان الصراع خارج تلك الرابطة الوهمية ولا تنطبق عليهما صفة الارتزاق التي يُفترض بها التجرد عن المبادئ. تالياً، ستكون مضيعة للوقت إيجاد صيغ تفاضل بينهما، فمن هو معتدٍ في مكان سيبرز معتدى عليه في مكان آخر. المظلوميات القديمة بدورها لم تعد معياراً يُعتدّ به، فالساحة السورية تزخر بأصحاب مظلوميات تحولوا إلى ظالمين، مثلما تزخر بمظلوميات جديدة نشأت أو قيد الولادة. وقد ثبت إضافة إلى هذا كله أن التاريخ القريب أو البعيد والميزان العددي ليس لهما أية أهمية راهنة، فالقوة أو الاستقواء يأتيان من قوة السند الخارجي.
وإذا نحينا جانباً مجمل الظروف الراهنة، يبقى حل المعضلة الكردية متوقفاً في المقام الأول على أصحاب القضية نفسها، ويتوقف تحديداً على تقديم مشروع واضح المعالم والأهداف، سواء تضمن البقاء ضمن سورية أو الانفصال عنها، ومن بعدُ يصبح المشروع محل تفاهم أو تصادم مع الآخر العربي. ويكاد يكون مستحيلاً تقديم تصورات متجانسة ومنسجمة من دون حل الاشتباك مع القضية الكردية في تركيا، أو اعتبار القضية الكردية في البلدين شأناً واحداً. بقاء حالة الالتباس التي يمثّلها حزب العمال في البلدين ستفاقم المشكلات، لا على صعيد تسخين الحدود مع تركيا فقط وإنما أيضاً على الصعيد الكردي الداخلي وعلاقته بجواره العربي.
ما سبق لا يعفي بالتأكيد الحكومات التركية المتعاقبة من مسؤوليتها عن حل قضيتها الكردية، مثلما لا يعفي حكم البعث والأسد من مسؤولية مشابهة، مرة عن اضطهاد الأكراد ومرة عن دعم حزب العمال. | |
|