يفترض أن تُجرى في 12 أيار (مايو) المقبل الانتخابات البرلمانية العراقية، وهي الرابعة منذ إطاحة النظام البعثي في نيسان (أبريل) 2003. لكن على رغم أن الموعد حددته المفوضية العليا منذ تشرين الاول (أكتوبر) العام الماضي، فإن بعض هذه التحالفات بدأ مناورات في الكواليس من أجل تأجيل الموعد لأسباب مختلفة، وهذا بعدما اشتدت سخونة التجاذبات السياسية إثر إعلان المفوضية أسماء التحالفات التي ستخوض الانتخابات. ومن تلك الأسباب حاجتها إلى وقت أكثر لتصيّد و «ضبط» المزيد من الصفقات الرامية إلى تحقيق مكاسب مصلحية لجهة عدد من مرشحي هذه التحالفات، والأهم لجهة المناصب المحتملة لمرحلة ما بعد الانتخابات. وللتوضيح، فإن التأجيل بحاجة إلى قرار من البرلمان، لكن لا شيئ محدداً ظهر حتى الآن، وما زالت المفوضة العليا متمسكة بالموعد المقرر لإجراء الانتخابات.
هنا أمثلة على غرابة المشهد السياسي– الانتخابي، وفي مقدّمها فيضان التحالفات التي صادقت المفوضية على تنافسها في الانتخابات، إذ بلغ عددها 205 تحالفات. وثمة غرابة أخرى تعكسها تسميات بعض هذه التحالفات، وهنا مختارات منها: «كفى صرخة للتغيير»، «بيارق الخير»، «ثأر الله»، «الفتح المبين»، «عراقيون رؤية وقرار»، «تحالف جماهير صلاح الدين»، «صلاح الدين هويتنا»، «الأنبار هويتنا»، و «من هالمال حمل جمال» كما في المونولوغ العراقي المشهور بهذه التسمية للفنان الراحل عزيز علي.
غرابة أخرى تتمثل في قرار «حزب الدعوة الإسلامي» المحتكر رئاسة الوزراء منذ انتخابات 2005، في خوض الانتخابات بقائمتين منفصلتين إحداهما برئاسة زعيم الحزب ونائب رئيس الجمهورية نوري المالكي (تحالف دولة القانون)، والأخرى برئاسة الشخص الثاني في الحزب رئيس الوزراء حيدر العبادي (تحالف النصر). وهما الغريمان المتنافسان على الغنيمة الأكبر أي رئاسة الوزراء، والتي تجعل شاغلها قائداً عاماً للقوات المسلحة، وهو ما أدى إلى قرار حزبهما عدم خوض الانتخابات كحزب وترك الحرية لعناصره في تشكيل تحالفات منفصلة تجنباً، كما يُعتقد، لانشقاق علني للحزب. والى تحالف العبادي، انضم أخيراً تيار «الحكمة» بزعامة عمار الحكيم الذي انفصل قبل أشهر عن «المجلس الإسلامي الأعلى» الذي ورثه عن والده الراحل عبدالعزيز الحكيم والذي بدوره كان ورثه عن شقيقه الراحل باقر الحكيم.
إلى ذلك، يدخل على الخط تحالف شيعي ثالث باسم «تحالف الفتح»، يرأسه هادي العامري زعيم منظمة «بدر» (فيلق بدر سابقاً) وقائد كتائب الحشد الشعبي. العامري يعتبر قريباً جداً من قائد «فيلق القدس» الإيراني قاسم سليماني، وكان حارب إلى جانبه ضابطاً في «الحرس الثوري» ضد القوات العراقية خلال الحرب مع إيران، ويتردد أنه سيكون مرشحاً محتملاً لرئاسة الوزراء في ضوء نتائج الانتخابات. ويضم تحالفه معظم الفصائل المسلحة في الحشد تحت مسميات تختلف عن مسمياتها الحشدية. وكان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أصدر بياناً «لتعزية» الشعب العراقي بـ «العجب كل العجب مما سار عليه العبادي» بمناسبة اتفاقه مع تحالف العامري، معتبراً ذلك تكريساً للطائفية والفساد.
يشار إلى أن اتفاق العبادي والعامري انفرط عقده بعد يومين فقط على إعلانه. أما الصدر نفسه فيقود تحالفا باسم «الاستقامة»، الشيعي في جوهره وإن ضم أيضاً جماعات مدنية علمانية تردد أن بينها الحزب الشيوعي العراقي. أما الأطراف السنية فتتمثل بتحالف يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، وهو شيعي لكنه علماني مدعوم سنياً، وهو يضم جماعتين سنيتين بارزتين يتزعمهما رئيس مجلس النواب الحالي سليم الجبوري المنتمي إلى تيار «الإخوان المسلمين» وصالح مطلك المدعوم من سنّة الأنبار. إلى ذلك يقود نائب رئيس الجمهورية الحالي أسامة النجيفي، وهو من الموصل، تحالفاً سنياً آخر. وكان علاوي تزعم قائمة باسم «العراقية» خاضت انتخابات 2010 وحصلت على أصوات فاقت الأصوات التي حصلت عليها قائمة «دولة القانون» بزعامة المالكي، فسارعت القوائم الشيعية الأخرى إلى تشكيل كتلة برلمانية موحدة وأحبطت بذلك تكليف علاوي تشكيل الحكومة.
بالنسبة إلى الطرف الكردي، فإنه ما زال يلعق جراحه نتيجة لتداعيات استفتاء الاستقلال الذي أُجري في أيلول (سبتمبر) الماضي وأفضى إلى تصويت 92,7 في المئة بـ «نعم»، الأمر الذي أدى إلى عواقب وخيمة على إقليم كردستان، وفي مقدمها فقدانه كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها، ناهيك بعزلته عراقياً وإقليمياً ودولياً. جراح الإقليم عمقتها الخلافات والانشقاقات في صفوف الأحزاب الكردية وانسحاب أحزاب من حكومته لتنعكس النكسات على ارتباك الموقف الكردي تجاه خوض الانتخابات في تحالف موحد كما في السابق، إن على انفراد أو على صعيد عام أو على صعيد الإقليم أو المناطق المتنازع عليها أو العراق ككل.
لكن ما هي البرامج الانتخابية التي تسوقها هذه التحالفات إلى الناخبين؟ هنا نصل إلى الغرابة الأكبر وهي أنها تخوض الانتخابات من دون برامج انتخابية واضحة تحدد سياساتها وحلولها لمشكلات البلد، إذ تقتصر «البرامج» على عبارات أدبية تفتقر حتى إلى البلاغة، ووعود عامة من نوع «عبور الطوائف»، على رغم أن التحالف المعني طائفي بامتياز، و «مكافحة الفساد»، مع أن التحالف المعني جزء عضوي من منظومة الفساد، و «الحكم الرشيد» وخزعبلات أخرى. ولعل المصادر الوحيدة التي يمكن أن «يعوّل» عليها مراقب خارجي حائر لمعرفة البرامج الانتخابية المفترضة تتمثل في مزاعم أنصار هذا التحالف أو ذاك بأنه سيحقق إنجازات ترقى إلى مستوى الإعجاز!
قصارى الكلام، كما في الانتــخابات الســــابقة، ما زال الانتماء إلى الجماعة بخير وما زالت الطائفية حية تُرزق، وهاتان الظاهرتان، شاء من شـــاء وكره من كره، هما اللتان ستــــحددان نتائج الانتخابات وتداعياتها. وكل ما قيل وروج له من وعود انتخابية وكلام عن عراق ما بعد «داعش» ومرحلة «عبور الطوائف» تحقيقاً لدولة المشاركة المدنية، ليس سوى من نوع كلام الليل الذي يمحوه النهار. |