بعدما أمضيتُ الجزء الأكبر من حياتي المهنية في المفاوضات وما يحيط بها، وبذلت في شكل خاص محاولات للالتفاف حول مسألة القدس أو تجنّب الخوض فيها، استغرقت بعض الوقت للتعافي من أثر الصدمة الذي تركه لديّ رئيسٌ غافل عن تعقيدات المدينة ومستعدٌّ للمواجهة المباشرة في موضوع القدس من دون أي هدف واضح في المدى الطويل، أو من دون أن تكون لديه أية فكرة، على ما يبدو، حول المرحلة المقبلة. والآن بعد انحسار الصدمة، وبعد أن رأينا أن الاحتجاجات في العواصم العربية كانت أقل حدة مما توقّع كثر، أورد في ما يأتي بعض الأفكار في هذا الصدد: لم تكن للأمر أية علاقة بالسياسة الخارجية.
قرار ترامب حول القدس هو التجسيد الأبرز لانتصار السياسة الداخلية والأنا الرئاسية على الحسابات السليمة في السياسات. وقد كان بالفعل تحيةً مناسبة لختام العام الأول من رئاسة ترامب، والذي تفوّقت فيه الاعتبارات السياسية على الاستراتيجيا السياسية (مثالٌ على ذلك اتفاقية التجارة المعروفة بالشراكة عبر الأطلسي، واتفاق باريس حول المناخ، ومفاوضات تعديل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، وحتى عدم المصادقة على التزام إيران الاتفاق النووي).
أين الاستراتيجيا؟
كنت أودّ أن أعتقد أن مغامرة ترامب في موضوع القدس مرتبطة بعملية سلام أوسع نطاقاً مستندة إلى النقاشات التي أجراها جاريد كوشنير عن كثب مع عرب وإسرائيليين. ربما كان الاعتراف بالقدس جزءاً من استراتيجيا كوشنير للإبقاء على المذاق الحلو في فم بنيامين نتنياهو عبر إطعامه كميات وافرة من العسل كي يتمكن ترامب، لاحقاً خلال المفاوضات الفعلية، من استخدام الخل والضغط عليه لتقديم تنازلات إلى الفلسطينيين. فهل يستطيع أي رئيس وزراء إسرائيلي أن يقول كلا لترامب بعد هدية القدس؟ أو ربما حصل كوشنير على التزام من صديقه، ولي العهد السعودي، بأن السعوديين وسواهم مستعدّون الآن للقبول بقدس موحّدة تحت السيطرة الإسرائيلية مع عاصمة فلسطينية رمزية في أبو ديس، و/أو في جزء صغير من القدس الشرقية.
كل ما تقدّم سذاجة مطلقة. هذه ليست عناصر استراتيجيا حقيقية بقدر ما هي مجموعة من الآمال التي هي في غير محلّها. لن يدفع نتنياهو ثمن شيء يعتبر أنه استحقَّ مجاناً لإسرائيل؛ ولن يُغيّر العرب بسهولة لهجتهم حول ثالث أقدس مدينة في الإسلام، فكم بالأحرى الموقع الأكثر خلافية في المدينة، الحرم الشريف أو جبل الهيكل - من المؤكّد أنهم لن يفعلوا ذلك من دون تنازلات كبرى من إسرائيل والولايات المتحدة، وغالب الظن أنهم لن يفعلوا ذلك على الإطلاق.
في الواقع، كل من خُيِّل إليه أن خطوة ترامب في موضوع القدس هي مناورة في إطار عملية السلام عليه أن يهدأ وينتظر بصمت حتى ينقضي هذا الشعور. فلو كان الرئيس جدّياً بشأن عملية السلام التي هي الآن أشبه بشخصيات الـ"زومبي" في فيلم "الموتى السائرون" (The Walking Dead)، لما أصدر أي إعلان عن القدس، وخصوصاً قبل المفاوضات. وإذا كان لا بد من إعلان شيء ما عن القدس، لوجب إقامة تمييز بين القدس الغربية والقدس الشرقية، والإشارة بطريقة ما إلى التطلعات الفلسطينية حول القدس الشرقية. بدلاً من ذلك، كان إعلان ترامب مغلَّفاً بإحكام شديد بالاستعارات المجازية عن أهمية القدس بالنسبة إلى إسرائيل إلى درجة أنه لم يترك مجالاً على الإطلاق لأي اعتراف مجدٍ بالمطالب الفلسطينية وصلات الفلسطينيين وروابطهم مع المدينة. في 11 دقيقة فقط، قوّض ترامب دور الولايات المتحدة في موقع الوسيط الفاعل، وكشف عن عدم احترامه للمطالب الفلسطينية ولحساسية مسألة القدس، وجعل من الأصعب على الدول العربية الضغط على الفلسطينيين ومدّ اليد إلى الإسرائيليين.
قالت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي في محاولة منها لتفسير مغامرة ترامب والدفاع عنها: "لنكن واضحين. شكّلت هذه المسألة ورقة مقايضة في الأعوام الـ 22 الأخيرة، ولم تساعدنا البتّة على الاقتراب من السلام. ما فعله كان سحب المسألة عن طاولة البحث". نعم، الأمر واضح تماماً: ليست لدى ترامب استراتيجيا لتحقيق "هدفه الأقصى". لو طرح خطة ذات صدقية، من ضمن نتائجها دعم قيام عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية، لتبدّلت الأمور.
كانت عملية السلام ميتة أصلاً. فهل دفنها إعلان ترامب؟
قبل أن نعصر أيدينا حزناً، وننتحب، ونشقّ ثيابنا بسبب إعلان الرئيس، فلنقلها صراحةً: على امتداد 15 عاماً على الأقل، لم تكن هناك عملية سلام ذات صدقية. ولا وجود لها في الوقت الراهن، وحظوظ إطلاق عملية سلام ذات صدقية - حتى قبل مغامرة ترامب في موضوع القدس - شبه معدومة. فالمشهد مطبوع إلى حد كبير بانعدام الثقة بين الفريقَين، والهوّات الشاسعة في القضايا الجوهرية، وكذلك وجود زعيمَين غير قادرَين على اتخاذ قرارات كبرى وغير مستعدَّين لذلك.
آخر ما كانت تحتاج إليه ما يُسمّى بعملية السلام مسمارٌ آخر يُدَقّ في نعشها، خصوصاً إذا كان هذا المسمار يتمثّل في موضوع القدس الذي هو أشبه بمسألة نووية متفجّرة. على الرغم من أن الإدارة الأميركية تتبنّى الفضل لنفسها في إحداث تغيير كبير في السياسة الأميركية، لقد بذلت جهوداً حثيثة لإقناع العالم بأنه لم يتغير أي شيء على الإطلاق. وإعلان ترامب يُظهر أن الإدارة لم تتخذ موقفاً في موضوع خطوط الفصل في المدينة وحدودها وسيادتها.
ربما يبعث ذلك شيئاً من الأمل لدى الفلسطينيين ودعاة عملية السلام في كل مكان. بالفعل، ليس على علمي أنه سبق للولايات المتحدة أن اعترفت بعاصمة أي دولة من دون اتخاذ موقف بشأن سيادة المدينة وحدودها وخطوط الفصل فيها. لكن بغض النظر عن التفاصيل، لا شك في أن إعلان ترامب كان بياناً حاسماً حول نظرته إلى السبيل لتسوية مشكلة القدس. إذا لم توضح الإدارة موقفها، سوف تُقوِّض الأضرار أي مجهود الهدف منه إطلاق مفاوضات ذات صدقية. نحن الآن أمام حكومة إسرائيلية تؤكّد سيادتها على المدينة بكاملها، وتعمد إلى خلق وقائع جديدة على الأرض كي تقطع الطريق أمام قيام عاصمة فلسطينية؛ والإدارة الأميركية أبدت موافقتها على هذا المجهود، وأعطت الآن نتنياهو غطاء للاستمرار في السعي خلف تحقيق مخططاته؛ والرئيس الأميركي لا يُظهر أية مؤشرات بدعم المطالب الفلسطينية في القدس الشرقية.
الفلسطينيون، السائرون على غير هدى والذين يعانون أصلاً من الاختلال الوظيفي، يجدون أنفسهم في مأزق: فاللجوء إلى العنف يصبّ في مصلحة إسرائيل ويقوّض شرعيتهم، غير أن الخطوات الديبلوماسية على غرار التوجّه نحو المجتمع الدولي للدفاع عن قضيتهم وحشد الدعم، تقودهم إلى غرفة فارغة من دون دعم أميركي. وشَقُّ طريقهم من جديد نحو مفاوضات تحظى برعاية ترامب يقتضي حصولهم على تطمينات بأنهم هم أيضاً يمكنهم التطلّع إلى عاصمة في القدس؛ لا يستطيع أي زعيم فلسطيني يرغب في الحفاظ على الدعم من شعبه، أن يقبل بما هو خلاف ذلك. فمن دون هذه النتيجة، لن يتم التوصل إلى اتفاق نهائي.
إلى أي حد سوف تسوء الأمور؟
يستحيل الإجابة عن هذا السؤال، لا سيما في مسألة شديدة التقلبات على غرار مسألة القدس. يشكّل العنف والمواجهة والإرهاب جزءاً من الرقصة الإسرائيلية - الفلسطينية منذ بدء النزاع، وسوف تحاول مجموعة متنوّعة من الأفرقاء، من إيران مروراً بحماس وصولاً إلى مجموعات جهادية أكثر تشدداً، استغلال الخطأ الذي وقع فيه ترامب. مع ذلك، كان رد فعل الفلسطينيين والدول العربية، إبان إعلان ترامب، مكبوحاً نسبياً.
لماذا؟ أحد الأسباب هو أن أزمات القدس تتطلب عادةً عامل تفجير على الأرض – عام 1996، كان عامل التفجير افتتاح النفق الغربي؛ وعام 2000، الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون إلى الحرم الشريف/جبل الهيكل واستعداد الزعماء الفلسطينيين لتنظيم أعمال الإرهاب والعنف؛ وعام 2017، كان تركيب أجهزة كاشفة معدنية في الحرم الشريف/جبل الهيكل السبب خلف انطلاق موجة عارمة من الغضب. هذه المرة، أقلّه في الوقت الراهن، هناك فقط كلام ترامب. وفي مختلف الأحوال، لا يمكن تبديد آمال شعبٍ لا يملك أصلاً أية آمال على الإطلاق. وثمة أسبابٌ تدعو إلى الاعتقاد أن الشرق الأوسط لم يعد كما كان في زمن الأجداد. الجمهور الفلسطيني منهوك القوى، ويتخوّف من الأذى الذي يمكن أن تتسبّب به انتفاضة حاشدة. لقد حققت إسرائيل مستوى صاعقاً من السيطرة على الفلسطينيين، بمساعدة من التعاون الأمني القوي من الفلسطينيين أنفسهم. أمام "فتح" و"حماس"، الجناحَين الرئيسيَين للحركة القومية الفلسطينية، خياراتٌ محدودة للثأر. والحكومات العربية، التي ربما عمدت في الماضي إلى تأجيج حمى العداء لإسرائيل من أجل تحويل الأنظار عن سوء إدارتها للحكم، تدرك الآن أنه يمكن أن تنقلب مثل هذه الاحتجاجات ضدها بسهولة؛ وهي تركّز أيضاً على مواجهة إيران التي ترى فيها تهديداً للاستقرار في المنطقة، كما أنها سئمت من المسألة الفلسطينية وتأمل بالحفاظ على روابط وثيقة مع إدارة ترامب التي لا تُلقي عليها محاضرات على طريقة أوباما عن الديموقراطية وحقوق الإنسان. على هذا الأساس، جاءت احتجاجات الجمعة [8 كانون الأول] التي كانت هناك خشية شديدة من حجمها، صغيرة النطاق، وكما كان متوقّعاً، طغت كثرة الكلام على اجتماع جامعة الدول العربية في القاهرة يوم السبت [9 كانون الأول] من دون مبادرات فعلية للتحرك.
غالب الظن أننا لن نشهد تفجّراً للغضب، بل سيستمرّ صرير الأسنان الطويل والمحبِط والمؤلم. فالتجاور بين الفلسطينيين والإسرائيليين يحكم عليهم برابطٍ لا ينفصم؛ وحتى في إطار نزاعٍ مجمّد، سيستمر كل طرف في مواجهة الآخر واستيعابه. وفي حين عمد الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى إلغاء اجتماع كان مقرّراً مع نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، الذي من المرتقب أن يتوجّه قريباً إلى المنطقة، شهدتُ على تقلّبات كثيرة تدفعني إلى استبعاد حدوث عودة فلسطينية إلى شكل من أشكال عملية السلام. بعدما أشارت تقارير إلى أن ترامب وجّه دعوة إلى عباس لزيارة البيت الأبيض، سنرى ما سيحدث في هذا الإطار. تماماً كموسيقى الروك أند رول، لن تموت عملية السلام أبداً، لأنه ليست لدى أحد أفكارٌ أفضل. بالطبع، السلام الحقيقي مسألة أخرى.
يبدو، في الوقت الراهن، أن خطوة ترامب في موضوع القدس كانت خطوة حمقاء زادت الأمور سوءاً، وتندرج تماماً في إطار سلوكيات الإدارة الأميركية التي تحب أن تبتدع حلولاً لمشكلات غير موجودة. كما قلت في بداية المقال، هذه ليست نهاية العالم، لكنها لن تؤدّي سوى إلى تعزيز الواقع بأن السعي خلف تحقيق سلام إسرائيلي - فلسطيني سيبقى على الأرجح، في المستقبل المنظور، عالقاً بين حل الدولتَين الذي يرتدي، من جهة، أهمية بالغة بحيث لا يمكن التخلي عنه، إنما ومن جهة ثانية، يصعب كثيراً تطبيقه.
نائب الرئيس لشؤون المبادرات الجديدة وباحث رئيسي في مركز ويلسونكانت
"بوليتيكو" |