في ظروف مشابهة لما حصل في حلب، تحيك روسيا تفاصيل معركتها في إدلب وريف دمشق، حيث الترويج لحرب ضد إرهاب النصرة من قبل النظام وحلفائه، وسط صمت من «أصدقاء الشعب السوري» وفي مقدمهم تركيا والولايات المتحدة الأميركية، وفي استعادة لكامل مشهد الحرب في حلب (2016) تعيد المعارضة السورية أخطاءها، بالمقدار ذاته الذي يخدم التهويل الإعلامي الروسي، بل ويساند نظريته في أن جملة من تقاتلهم وتلقي بحممها عليهم، هم من تنظيم النصرة، التي أعلنت عن تغيير اسمها سابقاً إلى هيئة تحرير الشام، وكانت المعارضة رحبت بهذا الإعلان، واعتبرته خطوة في الاتجاه الصحيح، بينما رفضه المجتمع الدولي واعتبره نوعاً من المخاتلة السياسية ليس أكثر.
وبينما تحصد نيران الدول الضامنة لاتفاقيات خفض التصعيد (إيران وروسيا) أرواح عائلات سورية كاملة، تمكث الدولة الضامنة الثالثة (تركيا) في حال ترقب، ويترك العنان لبعض المعارضة التي تسير ضمن سياق سياستها لخلط الأوراق من جديد بين فصائل المعارضة و «هيئة تحرير الشام»، في تكرار واضح لموقفها من الحرب في حلب وعدم رغبتها في التمييز بين فصائل معارضة سورية، وبين أجندة «هيئة تحرير الشام» التي تمارس الدور ذاته، في تسليم المدن والقرى للنظام وروسيا عبر معارك غير متكافئة، ولا تقتل إلا المدنيين السوريين تحت أسقف بيوتهم وملاجئهم وفي شوارع أسواقهم.
وضمن حملة دفاعية موجهة من المعارضة وسواء هي عن قصد، أو غير قصد، تمكن ملاحظة تماهي الخطاب الإعلامي مع خطاب النصرة في هذه المعركة كحال ما حصل سابقاً في حلب، والتي تبدو نتائجها شبه محسومة لتكون نسخة طبق الأصل عن نتائج المعركة التي خاضتها النصرة في حلب، وتم في نهايتها تسليم المدينة للنظام، وتكبد مئات الضحايا، وخروج عشرات الآلاف من المواطنين السوريين كلاجئين ونازحين، ما يجعل القول إنه ليس مبرراً اليوم اعتبار أن «هيئة تحرير الشام» هي جزء من حراك مسلح ضد النظام، على رغم وجود معارك بينية بينهما، إذ إن هذا الأمر يفيد في توثيق ما يرغبه النظام من وسم فصائل المعارضة جميعها بالإرهاب.
ولعل أوضح نتائج معركة حلب الموجعة التي خسرت فيها المعارضة أحد أهم مواقعها، ليس فقط الميدانية، وإنما السياسية على طاولة التفاوض في جنيف، حيث استجرت المعارضة رغماً عنها، إلى مسار تفاوضي جديد، شكلت ملامحه روسيا المنتصرة على شعب أعزل في حلب، بعد أن مارست «النصرة» دورها الموكل لها في تحريك المعركة، ثم أخذت دور المتفرج على حرب ضروس طاولت البشر والحجر في حلب، وعقدت روسيا من خلال جولات ثمانٍ حتى الآن في آستانة العاصمة الكازاخستانية عدداً من اتفاقيات خفض التصعيد، بضمانة مشتركة بين روسيا وإيران وتركيا، وكان منها اتفاقية خفض التصعيد في إدلب التي تشتعل اليوم بنيران الطيران الروسي وقذائف النظام وإيران، وبينما تلجأ تركيا إلى الصمت الذي يرقى إلى مستوى الموافقة على مجمل العملية التي قد تكون تهيئ لتنفيذ اتفاقية خفض التصعيد، ولكن على الطريقة الروسية بعد عجز تركيا اقناع «النصرة» بتدوير قواتها واندماجها مع الفصائل الإسلامية العاملة في إدلب.
ووفقاً لما تم تمكن ملاحظة: أولاً، أن النظام خلال معركته الآن في إدلب تجاوز الحدود المرسومة له وفق اتفاقية خفض التصعيد التي تمنح تركيا كامل المساحة شرق سكة القطار، ما يعني توقف النظام عند غرب السكة، وهو ما تجاوزته قوات النظام بعبورها السكة ومتابعة تقدمها خلافاً للاتفاقية، وتنفيذاً لسياسته المعتادة في كسب ما يستطيعه في اللحظة المتاحة، ما يضع تركيا أمام معركة سياسية جديدة مع روسيا هدفها إعادة تموضع النظام إلى حدود اتفاق آستانة السابق، وهذا يعطي روسيا ورقة ضغط اضافية للتمهيد لعقد اتفاق جديد مع تركيا وفق الواقع الراهن الذي يقتضيه «النصر الروسي المفترض» في إدلب، والذي يوازي النصر السابق لها في حلب.
ثانياً، وصول النظام إلى مطار أبو ظهور (يبعد نحو 12 كيلومتراً)، وإقامة قاعدة جوية له من جديد، لن يتم إلا بتسهيل من جبهة النصرة، لاستعادة كامل منطقة إدلب لاحقاً، وهو ما عبّر عنه النظام بأن اتفاقيات خفض التصعيد مرحلة موقتة، سيعمل بعدها على استعادتها كاملة عسكرياً وسياسياً، وهذا فعلياً مخطط النظام الذي يتمدد في مناطق خفض التصعيد تباعاً، ويحاول الاستيلاء على المناطق تارة باتفاقيات مقابل الغذاء، وأخرى بالقصف الشديد الذي تقف المعارضة عاجزة عن رده في أكثر من مكان، بسبب تنفيذها الحرفي لاتفاقياتها مع الجانب الروسي، أو بسبب عجزها عن مواجهة طيران النظام وحلفائه.
ثالثاً، خيارات الجانب التركي تبدو شبه معدومة في حال استمر النظام بتقدمه شرق سكة القطار، ما يعني أنها ستناور فقط بما يتعلق بحربها ضد الأكراد المتهمين بالارتباط بحزب العمال الكردستاني المحظور تركياً، لمنع توحيد مناطقها عبر الجيب التركي، الذي يمتد بين عفرين ومنبج، وهو ما يعكر صفو إقامة أي كيان كردي وامتداده في الشمال وصولاً إلى الساحل، وهذا أيضاً يمنح روسيا القدرة على المناورة مع تركيا، في شأن قبولها المشاركة في مؤتمر سوتشي المزمع عقده نهاية هذا الشهر، تحت مسمى الحوار الوطني بين المكونات السورية وفق إعلان النظام، و «الشعوب السورية» وفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يضع المعارضة السورية بين خيارين: المشاركة الطوعية استمراراً «لإنجازه» في آستانة، أو المشاركة تحت ضغط «الخسارة» في إدلب، والقصف الوحشي في ريف دمشق، وما بينهما المصالح التركية التي ستكون عامل ضغط أكبر على المعارضة التي لا تزال تتحدث بلغة غير واضحة عن موقفها من المشاركة في مؤتمر سوتشي.
إلا أن السر في هذه المعادلات التي قد تبدو غير قابلة للحل، ما لم يتوافر العامل الأهم فيها، هو الموقف الأميركي الذي يتراوح بين الصمت الرافض للتسويات الروسية الساعية لإعادة تسويق النظام، وفق مشهدية دستورية وانتخابية تحقق معطيات نجاحها من خلال مؤتمر سوتشي، وبين الفعل الأميركي المتردد في دعم المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، بشكل يجعلها قادرة على امتلاك ما يقوي موقفها من أدوات تفاوضية، وفي هذا السياق لا يمكن اغفال ما جرى في قاعدة حميميم وطرطوس من قصف عبر طيران مسير وفق الإعلان الروسي، والذي يشكل رسالة بأن المعركة النهائية لاتزال بعيدة، وأن قلب موازين القوى يحتاج إلى أمرين: دعم المعارضة بالسلاح، وهو ما أعلنت عنه الإدارة الأميركية (رصد 500 مليون دولار للمساعدات العسكرية)، وغض النظر عن تحركات الفصائل المسلحة، وكلاهما لايزال قيد الرغبة الأميركية التي لا ترى ضرورة لانقاذ المتصارعين الثلاثة وضمنهم الأطراف السورية على جانبي الجبهتين من مستنقع الحرب السورية.
وبالمحصلة فإن مقدمات معركة حلب وأيضاً ريف دمشق تنبئ أن مسارات روسيا التفاوضية في آستانة وسوتشي تطبخ على نيران معاركها، وجثامين ضحاياها، وأن المشاركة فيها ليست قراراً سورياً تتخذه المعارضة، أو النظام، بعيداً من أجندات ومصالح الدول الضامنة لهما، ولكن كل ذلك مرهون بما قالته أميركا لوفد المعارضة خلال زيارته الأخيرة، ولما ستقرره موسكو حول استمرار النظام في تحديه لتركيا، الشريك اللازم والضروري لروسيا في إنجاح مساره السياسي الجديد في سوتشي.
* كاتبة سورية |