لا يكفي تعاطف غالبية ساحقة في المجتمع الدولي مع الشعب الفلسطيني ضد قرار أميركي منفرد اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل. يعود التعاطف إلى عوامل عدة أكثرها يرتبط بانتهاك سافر للقانون الدولي وقرارات متوالية أصدرها مجلس الأمن، واستياء واسع من سياسات الرئيس ترامب الاستفزازية، فيما يتصل أقلها بحقوق إنسانية لشعب مظلوم ما زال يرزح تحت الاحتلال.
يتعذر، إذاً، اعتبار التعاطف مؤشراً إلى صحوة ما للضمير العالمي الآخذ بالضمور. الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي اتخذ أحد أقوى المواقف الدولية إزاء القدس، هو نفسه الذي يدعو في اللحظة ذاتها إلى التحدث مع الأسد، ويستغرب أسئلة صحافية عن تناقض هذه الدعوة وإدانته جرائم بشعة في سورية. لا يشعر ماكرون، وغيره من كبار المسؤولين في دول دخلت العصر الحديث وعرفت النزعة الإنسانية قبل غيرها، بأدنى مسؤولية تجاه جرائم ضد الإنسانية، وإذ يتنصل من هذه المسؤولية، يلقيها ضمناً على عاتق الضحايا في «فتوى» مدهشة تفيد بأن على الشعب السوري محاكمة الأسد عن جرائمه! وليس مفهوماً كيف يستطيع ضحايا محاكمة الجناة وهم مطالبون في الوقت ذاته بالإذعان لهم مجدداً وإن في شكل آخر!
هذا اللامعقول ليس إلا أحد تجليات تراجع النزعة الإنسانية، التي كافح كثيرون في العالم لنشر الوعي بها، وازدياد اللامبالاة بعذابات إنسانية تزداد حدتها. لامبالاة حتى بمناشدات من أجل مساعدات مالية وعينية لضحايا جرائم ضد الإنسانية، ولمكافحة الجوع وإغاثة الجوعى الذين زاد عددهم إلى 815 مليوناً وفق التقرير الأخير عن حالة الأمن الغذائي للعام 2017 الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» في أيلول (سبتمبر) الماضي. ويمثل هؤلاء الذين لا يجدون الحد الأدنى من الطعام حوالى 11 في المئة من سكان الكوكب، فيما بات إنتاج العالم من الغذاء يفيض عن حاجته!
وتحدث هذه الردة عن النزعة الإنسانية بعد نحو ستة قرون على بداية الزمن الذي تنامى خلاله ببطء وعي الإنسان بإنسانيته، ومعنى وجوده، وأدرك بتفاوت معنى كرامته وعلاقتها بحريته.
وفي مجرى هذه العملية التاريخية، التي بدأت مع باكورة النهضة الأوروبية، وتبلورت في عصر التنوير، ظهر مفهوم الضمير الإنساني العالمي الذي يتعاطف مع الضعفاء والمظلومين بمعزل عن أصولهم وانتماءاتهم، ثم يدفع إلى التحرك لإنقاذهم. لم تكتمل تلك العملية التي مضت في مسار متذبذب، وظل أقوياء وظالمون ومجرمون قادرين على إعاقتها. واتخذوا من مفاهيم كالدولة والسيادة والأمن القومي ذرائع لممارساتهم، وجعلوها «أصناماً» تُقدَّم الإنسانية قرابين لها. كما تمكنوا مؤخراً من استغلال التطور العلمي والتكنولوجي للتحايل عليها، وإساءة استخدام عمليات العقلنة والترشيد في غير المراد بها، وحوَّلوا الإنسان رقماً، وتحكموا بأولوياته، واستعبدوه أحياناً من دون أن يشعر.
وكان طبيعياً، والحال هكذا، ألّا يتسع الضمير العالمي في أي وقت إلى المدى الذي يسمح بإنقاذ ضحايا جرائم ضد الإنسانية هنا وهناك. لكنه لم يضعف، منذ أن ظهر، إلى هذا الحد الذي يظهر في لامبالاة مدهشة بعذابات عشرات الملايين من بني الإنسان، بخاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق آسيا.
أصبحت الواقعية السياسية Real Politics ذريعة للتعاطي مع جرائم ضد الإنسانية كأمر واقع لا حيلة لأحد فيه. تأملتُ مأخوذاً وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني في 19 الشهر الماضي يوم زارت مخيمات اللاجئين الروهينغيا في بنغلادش، الذين فروا من حملات تطهير عرقي (أكثر من 600 ألف إنسان) بصحبة وزراء خارجية ثلاث من أكثر دول العالم تقدماً وإنسانية هي اليابان والسويد وألمانيا. وبعدما تحدثت عن قصص مرعبة على حد تعبيرها، قالت ببساطة متناهية: «نهجنا كان وما زال تأمين مساحة للتفاوض وتشجيع الاهتمام بهذا الوضع الذي لن يختفي فجأة».
لم تجد موغيريني في جرائم اعتبرتها الأمم المتحدة تطهيراً عرقياً أكثر من واقع سيستمر إلى أن يتيسر حل له، على رغم كل القصص المرعبة التي ذكرتها. وإذا كانت هذه حالها، بخلفيتها الإنسانية المتسامحة والمنفتحة، فما بالنا بغيرها.
وهكذا يبدو الضمير العالمي أضيق من أي وقت مضى. لا تهزه الجرائم ضد الإنسانية إلا الجديد منها أو غير التقليدي، أو قُل غير تلك التي تعود عليها، فباتت كما لو أنها عادية وواقعية، إذ تبدو فيديوات شبه يومية تُبث عنها وكأنها شرائط «أكشن»، أو أحداث في كوكب آخر.
يحتاج الضمير العالمي، مثلاً، إلى القتل باستخدام أسلحة كيماوية لكي يشعر بوجود جريمة ضد الإنسانية تستحق العمل لوقفها، بخاصة إذا كان بين ضحاياها أطفال. أصبح قتل عشرات الملايين في غارات وحشية تدك مدناً وقرى، وتُحيل مناطق كاملة أنقاضاً، حدثاً عادياً ما دام القصف القاتل يتسربل برداء محاربة الإرهاب. لا يتألم الضمير العالمي حتى عندما يكون القصف بأسلحة تقليدية محرّمة دولياً، كالقنابل العنقودية.
وحدها الجرائم التي ما زالت قليلة في عصرنا هي التي تُحرّك شيئاً من ضمير عالمي. ولعل هذا يفسر الاهتمام البالغ بفيديوات بثتها «سي. إن. إن» منتصف الشهر الماضي، وتتضمن مشاهد لبيع مهاجرين أفارقة في ليبيا. تذكر كثيرون في العالم يومذاك مبدأ الكرامة الإنسانية الذي يُنتهك على أوسع نطاق في العالم. فالجميع يتواطـأون على هذه الانتهاكات لأنها تقليدية، ولأن مصالح حكومات دول طالما رفعت شعارات الحقوق الإنسانية تُعميها عنها. أما ما بدا أسواق نخاسة في ليبيا فانتهاك لم يعد مألوفاً اليوم، فضلاً عن أن هذه الحكومات لا مصلحة لها في غض البصر عنه. هكذا اشتدت الإدانات، ولكن من دون أن يعرف أحد من باع في هذه الأسواق، ومن بيع، ومن اشترى. أما استعباد شعوب بكاملها، أو فئات اجتماعية على خلفية انتماءاتها وعقائدها، فلا يُحرّك الضمير العالمي إلا شكلياً، حين يصبح الصمت مستحيلاً.
إنها مرحلة ينعطف فيها التاريخ انعطافة كبرى، فيبدو الإنسان غالباً أقل إنسانية وعقلاً ومسؤولية، وأدنى قدرة على مقاومة التعصب والتطرف والعنف. كما يبدو العالم أقل نوراً، أو أكثر ظلاماً، مع خفوت أضواء التنوير في مناطق انتشاره، وتلاشيها في مناطق أخرى. ولكنها مرحلة سيكون لها ما بعدها على أية حال. |