في ضوء المتغيرات السريعة والمتواصلة في منطقة الشرق الأوسط، يصعب على المراقب استكشاف الحوادث المتوقعة لأجندة البلدان المعرضة للخلل السياسي والاقتصادي.
هذا، مع العلم أن انهيار داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في العراق وسورية فتح المجال أمام زعماء الدولتين لإعادة بناء ما هدمه آلاف المقاتلين الذين انضموا إلى مغامرة أبو بكر البغدادي، أي المغامرة التي استمرت ثلاث سنوات ونصف السنة، محدثة عاصفة هوجاء في منطقة الشرق الأوسط وسائر دول العالم.
والثابت أن البغدادي وأتباعه أرادوا تجسيد رؤية قديمة بوسائل جديدة. والرؤية، كما وصفها «خليفة» هذه الحركة، تتمثل في قيام أمة واحدة، لها دولة واحدة، تخضع لزعيم أعلى واحد يحكم كل العالم الإسلامي.
يقول المؤرخون أن «داعش» لم يستنبط هذه الفكرة، وإنما عمل على تطويرها. وقد ظهر من قبله مفكرون مسلمون أمثال حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب، تركزت حملتهم على إصلاح الأخطاء، وبناء قوة تعمل على تحدي نفوذ الدول الغربية، والعودة إلى الدين الحقيقي. وأفتى «الإخوان المسلمون» بأن يكون شعار هذه الدعوة «الإسلام هو الحل.» ومن أجل تحقيق هذه الرؤية، فإن الدين يحتاج إلى إطار سياسي شامل يجمع المؤمنين تحت شعار مقاومة فكرة القومية التي شهدت تألقها في عهد جمال عبدالناصر وصدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد.
تتوقع دوائر الرصد الاستخباري أن يكون عام 2018 عام عودة نشاط تنظيم «القاعدة» الذي همّشه وحجبه تنظيم «داعش» لمدة تزيد على السنتين. في حين توزعت المجموعات التابعة لـ «داعش» في مناطق نائية مثل ليبيا وأفغانستان والصومال واليمن. وربما ما شجعهم على الفرار إليها حالات الفوضى التي تسودها.
الأسبوع الماضي، وردت معلومات عن وصول عناصر من «داعش» إلى ولاية جوزان في أفغانستان، حيث أقاموا معسكراً للتدريب بموافقة «طالبان» ودعمها.
مصادر الاستخبارات الفرنسية والبريطانية تؤكد أن أكثر من أربعين ألف مقاتل فروا من سورية والعراق إلى مناطق مضطربة يمكن استخدامهم فيها. وقد سارعوا إلى بناء تجمعات مسلحة، معتمدين على شهرة «داعش» في جزّ الأعناق وإحراق الأحياء. وهذه كلها شهادات على تمرسهم في إتقان فنون العنف. ولم تكن أسماء المجموعات المسلحة مثل «الرايات البيض» و «خراسان» و «السفياني» و «المتطوعون»... سوى أسماء مزيفة بهدف تضليل الرأي العام. ومن المتوقع أن تتجدد نشاطات هؤلاء العناصر العام المقبل، لافتعال عمليات انتقامية من جميع الدول التي ساهمت في دحرها ونسف رؤيتها الدينية!
ومن وقائع هذا التغيير، يطل سؤال مهم يتعلق بوضع الدولتين اللتين طُرِد منهما «داعش»: هل برئت سورية والعراق من آثار التنظيم، وهل يكون ترميم مؤسساتها السياسية والاقتصادية سهلاً، كما يتصور بشار الأسد ورئيس وزراء العراق حيدر العبادي؟
بالرجوع إلى وثيقة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، يتبين أن مبادئ الحوار الـ12 لا تنسجم مع طلبات وثيقة المعارضة، خصوصاً أن وسائل التنفيذ لا تخضع لمشورة المتحاورين، علماً أن الحوار بينهما تم بوساطة دي ميستورا الذي كان يتنقل بين الوفدين الموجودين في قاعتين متقابلتين.
العراق الذي أقام عيداً وطنياً لنجاحه في طرد «تنظيم داعش» عن أرضه، يعاني من تصرفات «الحشد الشعبي»، ومن إصرار قادته على تجاهل أوامر الحكومة المركزية. لذلك، اضطر المرجع الأعلى علي السيستاني إلى إصدار بيان يطلب فيه وضع الفصائل المسلحة تحت إمرة الدولة.
ومعلوم أن هيئة «الحشد الشعبي» تتألف من فصائل مقربة من إيران، وتدين بالولاء لتوجيهات علي خامنئي، المرشد الأعلى. وقد أفرزت الحرب أيضاً فصائل شيعية أخرى تدين بالولاء لأوامر طهران مثل: «سرايا عاشوراء» و «أنصار العقيدة» و «سرايا الجهاد» و «سرايا السلام» و «فرقة عباس» و «عصائب أهل الحق».
ومن أجل ضبط النظام العام، طالب عدد من النواب بالحاجة إلى وضع هذه الميليشيات كلها ضمن تشكيلات تابعة للدولة كالجيش النظامي والشرطة الأمنية.
والملفت أن حكام العراق ينتمون بالولاء إلى طهران كونهم انخرطوا في «حزب الدعوة» ولجأوا لمدة خمس سنوات إلى كنف الجارة. لذلك، يعتبر خامنئي أن الإنجاز الآخر الذي حققته بلاده بعد إنشاء «حزب الله» في لبنان، هو تشكيل مجموعات سياسية عراقية شيعية، ساهمت في إزالة الخطر الذي زرعه صدام حسين في عقول المواطنين السنّة.
بعد استفتاء انفصال إقليم كردستان عن العراق، برزت أزمة إضافية لحيدر العبادي شغلته عن بعض همومه المحلية. وقد اتهم هذا الأسبوع بتحريض المعارضين على توسيع رقعة الاضطرابات التي ازدادت حدتها في أربيل والسليمانية.
في نيسان (أبريل)، حددت الدولة موعداً لإجراء انتخابات عامة. لكن الأزمات الملحة أجبرتها على تأجيلها إلى شهر أيار (مايو) من عام 2018. ومن المتوقع أن يستخدم العبادي سلاح «الفساد» لمحاربة الطامعين في استبداله.
وأصبح العراق مرتهناً لمشيئة إيران بسبب مشاركة «الحشد الشعبي» في إنهاء سيطرة «داعش»، كذلك أصبح نظام بشار الأسد مرتهناً لروسيا وإيران معاً. وقد استغل الرئيس فلاديمير بوتين زيارته الأخيرة قاعدة «حميميم» الجوية الروسية في سورية ليتحدث عن دور بلاده في إنقاذ الأسد الذي كان حاضراً.
من هنا، القول أن «مؤتمر سوتشي» الذي دعا إليه بوتين مطلع العام المقبل، سيكون البديل لمؤتمر جنيف الذي عمل الوفد الرسمي السوري على إفشاله بإيحاء من موسكو.
وقد وجدت طهران في هذا العمل تحقيقاً لطموحات قواتها التي حاربت من أجل بقاء بشار الأسد في سدة الحكم. ومع بقائه ستبقى إيران صاحبة الحظ الأوفر في استثمار إمكانات العراق وسورية بغرض الوصول إلى لبنان!
ويرى المراقبون في الأمم المتحدة أن عام 2018 سيكون عام الحسم بالنسبة إلى الخط الأحمر الذي رسمته إسرائيل لإيران في سورية. والسبب أن الغارات المتواصلة التي يقوم بها الطيران الحربي الإسرائيلي ضد القواعد الإيرانية في سورية ستتحول خطوطَ احتكاك في المستقبل، خصوصاً بعدما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب إيجاد توازن في وجه إيران.
وقد جاء تصريح ترامب وسط توتر متصاعد بين واشنطن وطهران. وربما رفع من حدة هذا التوتر تصريح وزير الدفاع الإيراني الجديد العميد أمير حاتمي، وقوله: أن بلاده ستعزز قدراتها في مجالي الصواريخ الباليستية والصواريخ من طراز «روز».
لذلك، اتهِمَت إيران بتزويد حوثيي اليمن بالصواريخ الباليستية التي تطلق باتجاه السعودية. وكان آخرها اعتراض صاروخ فوق الرياض.
وفق ضوء ما تقدم، يميل المحللون إلى الاعتقاد بأن عام 2018 سيشهد حروباً إقليمية بسبب تأجيج جميع القضايا دفعة واحدة. وحجتهم أن الجيش الإسرائيلي نفذ أكبر مناورة عسكرية له منذ عشرين سنة. واعتُبِرَت تلك المناورة التحضير المسبق لحرب مقبلة مع «حزب الله» في جنوب لبنان. وكان أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، حذر في إحدى خطبه من أن الحرب المقبلة سيكون مسرحها إسرائيل.
وعلى الرغم من إجماع المراقبين على أن الفريقين لا يبحثان عن مواجهة جديدة، إلا أن المتغيرات السياسية في المنطقة تهيئ الحوادث لانفجار محتمل. لكن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، أعلن أخيراً أن بلاده ستتعامل مع إيران بطريقة ديبلوماسية لا بطريقة عسكرية. ثم استدرك ليقول أن هذه الدولة (أي إيران) متورطة في كل اضطرابات الشرق الأوسط.
ويرى عدد من المحللين أن كل ما أعلنه ترامب هذا الأسبوع كان بهدف التغطية على الخطيئة السياسية التي ارتكبها باعترافه أن القدس عاصمة لإسرائيل.
وبسبب الحملة العالمية التي أعقبت هذا التصريح... وبسبب رفضه التراجع - كما طلب منه البابا والملك عبدالله الثاني والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس - فإن تشدده حيال إيران وروسيا والصين كان بغرض حرف الانتباه عن المشكلة الحقيقية. والمشكلة الحقيقية تحولت إلى الجمعية العامة بعدما تدخل الفيتو الأميركي ليحبط المبادرة المصرية ضد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقد تبيّن أن أربع عشرة دولة عضواً في مجلس الأمن أيدت المبادرة المصرية، بما فيها روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا.
والعبرة من هذه الواقعة لا تشير إلى وأد فرص السلام بين العرب والإسرائيليين، بقدر ما تشير إلى أن قرار ترامب وضع بلاده في عزلة دولية إلى جانب إسرائيل... في حين أظهرت مائتا دولة معارضتها لهاتين الدولتين!
* كاتب وصحافي لبناني |