انتظر الشعب الفلسطيني طويلاً من أجل تسوية سلمية تعيد شيئاً من حقوقه المشروعة. أضاع قادته، وقبلهم قادة عرب آخرون، فرصاً عدة أملاً في تحسن شروط التسوية. ولا يضير الفلسطينيين الانتظار لفترة أخرى، لأن أي مشروع تسوية سيُطرح عليهم في وجود الإدارة الأميركية الحالية قد يكون الأسوأ على الإطلاق، الأسوأ من كل ما سبق، ومما قد يأتي بعد ذهاب هذه الإدارة.
ربما يصح جزئياً أن قرار ترامب يُفعّل قانوناً صدر في 1995، ولا يُغير الوضع القائم على الأرض. لكن الأصح أنه يُشجّع القوى الأكثر تطرفاً في إسرائيل على مزيد من الجموح، ويفتح باباً جديداً للتطرف عربياً. وربما يزداد خطر هذا القرار في حال كان خطوة نحو تسوية ما ربما اعتقد ترامب وصهره كوشنر، وحلقتهما الضيقة في البيت الأبيض، أن تردي الوضع الفلسطيني، وانشغال العرب بقضاياهم، يسمحان بتمريرها.
وهذا أهم ما يتعين أن تنتبه إليه الفصائل الفلسطينية، التي تضع نفسها، وقضيتها، دوماً في موقع رد فعل، وتتصرف يوماً بيوم بطريقة تسودها العشوائية وتطغى المصالح الصغيرة.
مهمة هذه الفصائل الأولى اليوم ترميم التصدعات الخطيرة لانقسام بات عبثياً يُغري باستباحة ما بقي من حق فلسطيني، وإدراك أن ثمة مقاومة واحدة مجدية الآن. لا تحتاج هذه المقاومة صواريخ بدائية أو متقدمة، أو بنادق، أو حتى حجارة، بل توافقاً استراتيجياً حقيقياً، وليس تكتيكياً مناوراً، على برنامج عمل يهدف إلى احتواء ضغوط متوقعة، أو أقله محتملة، لعقد صفقة لا تزال ملامحها مجهولة، لكن اسمها المتداول («صفقة القرن») يوحي بأنها قد تكون من نوع يجيده تجار متمرّسون يعرفون كيف يستغلون ضعف من يريدون بيعه سلعة سيئة بثمن كبير.
والفلسطينيون اليوم في أضعف وضع في تاريخهم. ومن عوامل ضعـــفهم عــدم الإقرار بأن النمط التقليدي للاحتجاج، الذي لم يتغير منذ انتفاضة 1936، لم يُحــقق تغييراً في ميزان القوى لمصلحتهم.
ولذا حان وقت استيعاب درس هذا التاريخ في لحظة تتوافر فيها فرصة تاريخية للبناء على تعاطف دولي غير مسبوق مع قضية فلسطين من بوابة القدس. العالم كله تقريباً رفض قرار ترامب، بأشكال مختلفة ودرجات متباينة. وهذا تعاطف يكسب الفلسطينيون كثيراً إذا حافظوا عليه، وتمكنوا من عقلنة الغضب المفهوم والمشروع الذي لا يشعرون به وحدهم.
تستوجب العقلنة مراجعة نمط الانتفاض الصدامي، واستبداله بأساليب أجدى كتنظيم اعتصامات سلمية نهارية، ومسيرات ليلية بالشموع، في القدس وغيرها من المدن والبلدات الفلسطينية. هذا التعبير عن الغضب يُحدث أثراً طيباً في الوجدان العالمي، بخلاف التظاهرات التي تتحول إلى صدامات تسعى إليها سلطة الاحتلال، لكي تصرف انتباه المجتمع الدولي عن أصل القضية.
ومن أهم ما ينبغي الحرص عليه تجنب إضفاء أي طابع ديني على الخطاب السياسي الفلسطيني، والشعارات التي ترفعها الفصائل المختلفة، وتنبيه «حماس» خصوصاً إلى مغبة إخراج هذه الشعارات من الأدراج التي تضعها فيها حين تريد أن تبدو كحركة مدنية، أو تحافظ على مسافة من جماعة «الإخوان المسلمين». فليس هناك أخطر على ما بقي من قضية فلسطين من تديين الصراع، وبخاصة في لحظة يخلط فيها كثيرون في العالم بين الإسلام والإرهاب.
وحين تتوازى مقاومة سلمية كهذه مع تحرك على الصعيد الدولي انطلاقاً من برنامج عمل توافقي يبدأ بمصالحة فلسطينية فورية وحقيقية، ومن دون مناورات وألاعيب صغيرة، يمكن توفير المقومات اللازمة للصمود إزاء أي ضغط أميركي محتمل لفرض تسوية لا يقدم المتطرفون الإسرائيليون إلا تنازلاً شكلياً فيها. وربما لا يخلو من دلالة اختيار ترامب نائبه مايك بنس لزيارة المنطقة، وليس وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي تزداد التوقعات بشأن استبداله خلال فترة قصيرة للتخلص من صوت عاقل في هذه الإدارة. ولذا قد يكون مفيداً أن يتضمن الخطاب الفلسطيني تمييزاً بين رفض موقف ترامب وعدم قبول استمرار الوساطة الأميركية في عهده، ودور الولايات المتحدة مستقبلاً في حال تبنيها سياسة أكثر إنصافاً.
والمهم في هذا أن يكون للفلسطينيين اليوم هدف محدد، وليكن العمل للمحافظة على التعاطف الدولي، والسعي إلى تنميته، والاستناد إليه للصمود تجاه ضغوط متوقعة أو محتملة، إلى أن يتحرر الأميركيون الذين انتخبوا ترامب من أوهام «المنقذ»، ويعرفوا أن الاقتراع لمصلحته كان انتحاراً سياسياً نتج من إحباطهم وغضبهم على أداء الطبقة السياسية التقليدية. وقد بدأ بعضهم يدرك ذلك نتيجة سوء أدائه في عامه الرئاسي الأول. وربما لجأ هو إلى إصدار قرار القدس في محاولة لاستعادة هؤلاء الذين يؤيد الكثيرون منهم إسرائيل بقوة.
والأرجح أن بعض أسرى وهم ترامب «المنقذ» سينفضّ من حوله قبل الانتخابات المقبلة. وربما يتحرر الأميركيون جميعهم منه قبل انتهاء ولايته الأولى في حال إحراز تقدم أسرع في التحقيق الجاري في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وهكذا يبدو أنه سيكون على الشعب الفلسطيني أن ينتظر تحرر الشعب الأميركي من خطر ترامب عليه، وعلى العالم. ويا لها من مفارقة مثيرة حين ينتظر الشعب الوحيد، الذي لم يتحرر من الاستعمار حتى الآن، تحرر شعب تخلص من مستعمريه قبل نحو قرنين ونصف القرن، وحقق أعلى معدلات التقدم في العالم. ولكن حال الشعب الأميركي تختلف عن شعوب كثيرة تحررت من الاستعمار، ثم وقعت في قبضة سلطات لم تستطع التحرر منها. خطر الإدارة الراهنة على الشعب الأميركي ليس من هذا النوع، لأن الديموقراطية التي ينعم بها، ولا يستطيع ترامب تقييدها على رغم عدائه الشديد لحرية التعبير والإعلام، تُمكّنه من تصحيح اختياره في الانتخابات المقبلة. أما مأساة الشعب الفلسطيني فلا تبدو لها نهاية بعد، وإن توافرت فرصة لاستثمار التعاطف الدولي المترتب على قرار القدس في حال التوافق على استراتيجية طويلة أو متوسطة المدى تبدأ بتغيير المنهج الذي اعتُمد طويلاً في المقاومة وثبت عدم جدواه، وتتضمن خطة واضحة وتفصيلية لحل سلمي يجمع الواقعية السياسية والإنصاف الممكن، وليس مجرد أهداف عامة، والسعي لكسب أوسع تأييد دولي لهذه الخطة، والانتقال تالياً من موقع رد الفعل الاحتجاجي إلى المبادرة الفاعلة.
|