لم تكن حال العرب في حاجة إلى تنوير فكري، منذ بدء احتكاكهم بالغرب مطلع القرن التاسع عشر، مثلما هي الآن، مع التدهور غير المسبوق منذ قرنين. قاوم كثيرون في العالم العربي أفكاراً وأنماط حياة حديثة ظنوها تتعارض مع تقاليدهم أو قيمهم أو تراثهم أو عقيدتهم. وأنتجت هذه المقاومة فائض تخلف وتعصب وتطرف أغرق المنطقة، وفاض في العالم.
استندت مقاومة التنوير، كمقاومات أخرى يولع بها غير قليل من العرب، على صورة نمطية يبدو فيها خطراً على الدين، وتهديداً للمُقدَّس. وعصفت هذه المقاومة بدعوات تنويرية متكررة استُهجنت، وقُمع دعاتها أو هُمشوا. وأخفق التنويريون في بناء جسور مع مجتمعاتهم، فلم يتيسر لهم توضيح معنى التنوير بخلاف ما فعله تنويريون أوروبيون كالفيلسوف الألماني عمانويل كانط في كتابه «رد على سؤال ما هو التنوير» الصادر عام 1784.
أوضح كانط أن التنوير يعني تحرير الإنسان من حالة ذهنية متخلفة ارتاح إليها أو خضع لها طوعياً حين أقنع نفسه، أو أُقنع، بأنه عاجز عن استخدام عقله وإدراك ما يحدث حوله، ما أدى إلى توارث تقاليد الخضوع للوصاية وإعادة إنتاجها.
وعندما نتأمل هذا المعنى، ربما نخلص إلى أن مقاومة التنوير كانت في الوقت ذاته مقاومةً لأي تطور باتجاه إعمال العقل، وإدراك قدرته على إعادة صوغ الحياة على الأرض.
وهذا جوهر مفهوم العقلانية الذي يتعذر في غيابه تنظيم المجتمع بطريقة تفتح أمامه آفاق التقدم. ومن أهم ما فشل العرب في تنظيمه، بهذا المعنى، العلاقة بين الدولة والدين في بلدانهم. وما زال هذا الإخفاق عاملاً جوهرياً، إن لم يكن الأهم، في الأزمات الثقافية– السياسية التي لا نكاد نخرج من إحداها لندخل في ثانية، حتى أن بعضنا بات يعتقد بصعوبة، وربما استحالة، تحقيق توافق في شأن علاقة الدولة والدين على أسس عقلانية.
غير أن هذا التوافق ممكن فقط في حالة تحرير العقل العربي من صورة نمطية للعلمانية تبدو فيها مناقضة للعقائد الدينية، أو خطراً عليها. يتطلب الأمر شيئاً من العقلانية لفتح حوار جاد حول نموذج لعلمانية عربية تقوم على مبادئ ثلاثة: أولها، حياد سلطة الدولة تجاه الأديان، عوض تأسيسها على مرجعية دينية، أو اتخاذها موقفاً ضد الأديان على الطريقة السوفياتية وما يشبهها. ويعني حياد سلطة الدولة هنا التزامها ضمان حقوق المواطنين جميعهم في العبادة، وممارسة الشعائر على قدم المساواة.
وثانيها، التمييز بين المساحة السياسية، والمساحات الأخرى في المجال العام. ووفق هذا التمييز، لا يُفصل الدين عن المجال العام كله، بل عن المساحة التي يشغلها النظام السياسي، أي التي تحدث فيها التفاعلات المتعلقة بتنظيم سلطات الدولة، وصنع السياسات العامة، والتنافس بين الأحزاب وما يشبهها من كيانات.
ويُستمد هذا المبدأ من قراءة التاريخ السياسي الإسلامي، كما من عصر التنوير الأوروبي الذي يُساء فهم الكثير من أفكاره ومبادئه. فقد أظهرت التجربة التاريخية الإسلامية أن الخلط بين الدين والسياسة أساء إلى كليهما، وأعاق الحركة إلى الأمام في المرحلة التي انطلق فيها الغرب، وحقق نهضته، عندما أُطلق العقل من أسره، وأُرسيت قواعد شملت فصل الدين عن سلطات الدولة كافة. ولكن هذا الفصل توسع في بعض الحالات، وتجاوز سلطات الدولة إلى المجتمع، ما ساهم في تدعيم الصورة النمطية السلبية للعلمانية في كثير من الأوساط العربية. لكن لم يثبت أن هناك ضرورة لهذا التوسع، بل تتيح دراسة تجارب العلمانية في الغرب والعالم، والمقارنة بينها، استخلاص أنها تكون أكثر فائدة حين يُفصل الدين عن السياسة، وليس عن المجتمع.
ولذا يحتاج العرب إلى تنوير بعلمانية تفصل الدين عن مساحة محددة في المجال العام، وهي مساحة العمل السياسي، وليس عن المساحة التي تشغلها النشاطات الاجتماعية والثقافية، سواء في المجتمع العام، أو في المجتمع المدني بمنظماته وروابطه وجمعياته بأنواعها وأهدافها، وكل ما يتعلق بالاهتمامات التي تتجاوز الحيز الخاص للإنسان، أي أسرته وعمله وصداقاته وعلاقاته الشخصية. ويتطلب ذلك أن تدرك سلطة الدولة أخطار استخدامها الدين لدعم سياسات تنتهجها، أو تبريرها، لكي لا يكون موقفها ضعيفاً من الناحيتين المعنوية والأخلاقية إزاء توظيف أحزاب وجماعات سياسية للدين، وممارسة جمعيات وهيئات دينية وصاية على الناس والمجتمع.
ولعل آخر أمثلة هذا المجال التدخل الرسمي في قضايا كالطلاق الشفهي في مصر، والميراث في تونس، والإجهاض في الجزائر. وعندما يحدث تدخل كهذا من دون مقدمات في المجتمع، فقد يؤدي إلى آثار عكسية، لأنه يثير جدلاً يتجاوز محتوى الطرح الرسمي، ويفتح مساحات لمزاعم حول وجود خطر على الدين.
ويشمل تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، هنا، عدم توسع السلطة في استخدام الأدوات التشريعية في هذا التنظيم وترك الجزء الأكبر منه للمجتمع، بحيث يكون تدخلها في هذا الاتجاه مرتبطاً بحدوث تطور في المجتمع، أو دعمه في بدايته، وليس سعياً إلى فرضه من أعلى من دون أساس موضوعي له.
ويقود ذلك إلى المبدأ الثالث في هذا النموذج العلماني، وهو أن الدين ليس محصوراً في المجال الخاص للإنسان. والعلاقة وثيقة بين هذا المبدأ وسابقه، لأن الدين حاضر بالضرورة في المجال العام الاجتماعي– الثقافي، الذي يمتد في مساحة معتبرة في أي مجتمع. وإذا صح أن الدين هو في الأساس جزء من الحيز الخاص للإنسان، الذي لا يحق لأحد التدخل فيه، فصحيح أيضاً أنه لا يقتصر على هذا الحيز.
والحال أن الإيمان الديني يعد شأناً خاصاً تماماً، ولكن تجليات الدين تتجاوز المجال الخاص، وتشغل مساحة في المجال العام الاجتماعي– الثقافي.
وإذ تبدو العلاقة وثيقة بين العلمانية والعقلانية، سواء في مفهوم التنوير الغربي أو في التنوير الذي يحتاج إليه العرب اليوم، يصبح ضرورياً إدراك أن التقدم باتجاه هذا التنوير يتطلب عقلاً علمياً نقدياً لا يكتفي بمحاكاة التطبيقات العلمية والتقنية الحديثة، بل يربط بين المكونين التقني والمعرفي– القيمي للعلم، ويفتح الطرق المغلقة أمام إعادة تنظيم المجتمعات العربية في مختلف مناحي الحياة، وفي المقدمة تنظيم العلاقة بين الدولة والدين. |