التاريخ: تشرين الثاني ١٩, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
بين انتصار الأسد الأب وانتصار الابن - عمر قدور
تتهيأ موسكو لإعلان العام المقبل عام انتصارها التام في سورية، كذلك يتهيأ بشار الأسد وطهران للإعلان نفسه، إنما مع طموحات لا يخفيها كل طرف منهما.

بشار الأسد يظن أنه سيتمكن من استعادة المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية في مساحات شاسعة من شمال وشرق البلاد، بينما عيْن طهران على المناطق الشرقية المتاخمة للعراق، وأيضاً على إدلب لاعتبارات تتعلق بالتنافس مع أنقرة وبوجود بلدتين شيعيتين تشكلان قاعدة لنفوذها هناك.

ليس جديداً أن طموحات بشار وحليفيه تتغذى من الإعلان الدولي المتكرر بعدم وجود حل عسكري في سورية، الإعلان الذي فُهم دائماً على أن إسقاط النظام عسكرياً أمر مرفوض دولياً. كذلك هي الحال مع الإعلان الدولي المتكرر حول الحفاظ على وحدة التراب السوري، الذي فُهم منه دائماً القبول بإعادة سيطرة تنظيم الأسد على كافة الأراضي، مع اختلاف دولي يتعلق في ما بعد تمكينه، أي الخلاف حول مصير عائلة الأسد.

يصادف، قبل ثلاثة عقود، أن أجهزة الاستخبارات السورية شنت آخر حملة اعتقالات واسعة في زمن حافظ الأسد، واستهدفت تلك الحملة في شكل أساسي آخر فلول التنظيمات اليسارية، بما فيها أولئك الذين «نقلوا البندقية من كتف لآخر»، وهو تعبير استُخدم آنذاك كناية عن أولوية معركتهم ضد الإخوان على معارضتهم الأسد. قبل حملة الاستخبارات بنحو ثلاث سنوات، كان حافظ الأسد قد استفاق من غيبوبة المرض ليقصي شقيقه رفعت عن قيادة «سرايا الدفاع»، وليقصي حلفاءه وخصوم شقيقه عن قيادة إقطاعيات عسكرية أخرى مهمة، وليفرغ الساحة نهائياً لتوريث نجله. هذا كله حدث سريعاً بعد الانتصار في مواجهة الإخوان، وعلى سبيل تفريغ الساحة تماماً من أي منافس محتمل ضمن رجالات السلطة، وتفريغ المجتمع من السياسة.

الانتصار الساحق لحافظ الأسد لن نلمسه في ما بعد بغياب أية معارضة للتوريث فحسب، وإنما سنراه في تعليق الآمال على وريثه من أجل طي صفحة أبيه. حتى على صعيد بعض النخب، كان تغيير النظام ذاتَه مأمولاً على غرار ما حصل في بعض تجارب الاستبداد والفساد في أميركا اللاتينية، بالأحرى لم يكن في الأفق طريق منظور سوى امتلاك السلطة عقلاً يقنعها بالتخلي عن الغلو في استبدادها لمصلحة بقائها أيضاً، وهذه المقايضة المأمولة ربما كانت أفضل تعبير عن ذاك الانتصار.

لقد استطاع الأب تجيير الانتصار كاملاً لشخصه وأسرته الصغيرة، لكنه في مواجهة الإخوان الشهيرة (نهاية السبعينات ومستهل الثمانينات) عمل على استنفار كافة أركان حكمه، بما فيها حزب البعث الحاكم والنقابات المُسيطر عليها. وإذا كانت الكلمة العليا لأجهزة الاستخبارات و «قوات النخبة» التي ارتكبت العديد من المجازر، أهمها مجزرة حماة التي أودت بعشرات الآلاف، فإن جهداً ضخماً بُذل لتصوير المواجهة على أنها بين نظام متكامل، له قاعدته الشعبية في كل البلد، وتنظيم إرهابي طائفي معزول. تضمّنَ ذلك العملَ على سحب ورقة الإسلام من خلال إنشاء مدارس رسمية لحفظ القرآن، وتشجيع مدارس دينية خاصة أقرب إلى الدعوة السلفية، مع الخلط بين استمالة بعض بقايا الرأسمال التقليدي وتدمير بعضه الآخر الداعم للإخوان. المغزى هنا، محاصرة تلك الطبقة الوسطى المتعلمة الإخوانية بموجة سلفية أدنى منها معرفةً وسياسةً، وتجفيف مصادر الدعم المالي الأهلية.

إعادة هندسة المجتمع كانت حاضرة في مخطط حافظ الأسد، إنما ليس على طريقة الابن في القصف العشوائي والإبادة والتهجير، ومن ثم التشدق بكسب مجتمع متجانس. كان مخطط الأب يرمي إلى تدمير الحارات القديمة، لأن بنيتها المعمارية والاجتماعية تصعّب اختراقها استخباراتياً. وبالفعل، ليس في حماة المنكوبة فقط، أزيل قسم من تلك الأحياء بذريعة التطوير العمراني، أو شق أوتوسترادات عريضة مكانها، وعُوِّض الأهالي بمساكن شعبية أحدث عمرانياً، وأهم ما فيها انتزاعهم من مجتمعهم الصغير السابق.

واحد من الفوارق الهامة بين الأب والابن أن الأول دفع بشعارات العروبة، وبالطبع الممانعة عندما كان ذمّ اتفاقيات كامب ديفيد في أوجه، في مواجهة الخطاب الطائفي الصريح الذي كشفت عنه الطليعة المقاتلة للإخوان مع ارتكابها مجزرة مدرسة المدفعية. بينما أجج إعلام الابن المسألة الطائفية منذ بداية الثورة، حين كان المتظاهرون يدعون إلى وحدة الشعب السوري، وأجج إعلامه الهجوم على العروبة بعبارات مستلهمَة حرفياً من أشد الأدبيات الإيرانية عنصرية إزاء العرب. هذا الاختلاف، مع رسوخ انتصار الأب، سيؤدي، قبل ثلاثة عقود، إلى تقدّم القاعدة الطائفية له في الفضاء العام، بصرف النظر عما هو مستحق في التقدم أو عن حصول قسم منها على امتيازات سلطوية، فالمحك كان في امتلاك شعور حقيقي بالثقة وعدم الخوف.

أما انتصار بشار، مع ما رافقه من إبادة وتهجير طائفيين وتأثيرهما على البنية الديموغرافية للبلد، فلن يمنح القاعدة التي اصطفت معه تلك الثقة السابقة، وللمفارقة ستكون عمليات الإبادة والتهجير من أهم مصادر عدم الثقة والخوف من المستقبل. في غياب مؤشرات إحصائية دقيقة، يمكن الاستدلال بالفورة العمرانية التي شهدتها مناطق الساحل، وفي أرياف لم تصلها موجات نزوح من خارج مجتمعها الصغير، بمعنى أن جزءاً معتبراً من هذه الفورة بُني لأجل العائدين في هجرة معاكسة، أو من أجل الذين وضعوا خيار العودة كاحتياطي لمستقبل غير مطمْئن.

المقارنة بين انتصار الأب وانتصار الابن لا تتوقف عند تحقيق الثاني بقوى خارجية، وبأن الأخيرة رسخت نفوذاً مستداماً لها في سورية يفوق ما لديه من نفوذ. ولا تتوقف أيضاً عند ضمان الأب بقاء السلطة في أسرته، وتعزيز حضوره أو نفوذه الإقليمي، بينما مصير الابن مطروح على موائد المفاوضات في انتظار الثمن المناسب أو الضغوط الكافية على حلفائه.

أبعد من ذلك، عند الحديث عن خوف من يُفترض أنهم في جهة المنتصرين، يتوجب الكفّ عن الإشادة بتنظيم الأسد على محمل نجاحه في اللعب على وتر العصب الأقلوي، لأن وجوداً قلقاً (كوجود بشار في السلطة) كفيل بنقل عدوى القلق إلى مؤيديه، ولو لم يصل هذا القلق إلى حد السؤال: إذا كان قتل مئات الآلاف من الطرف الآخر وتشريد الملايين لا يطرد الخوف، فما البديل؟