التاريخ: تشرين الثاني ٥, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
معارضة «حزب الله» في زمنه - سامر فرنجيّة
مع انتصار «حزب الله» إقليمياً وسيطرته شبه الكاملة على الساحة اللبنانية، ربما دخلنا في ما سمّاه حازم صاغيّة «زمن «حزب الله»» (الحياة، ١٢/٨/٢٠١٧)، وهو زمن يحوّل مقولة «دولة «حزب الله»» من تهمة أو نقد للحزب، إلى وصف لشكل الدولة الوحيد الذي يمكن العبور إليه. وبعد سنة على قيام عهد «حزب الله»، بدأت تتضح معالم هذا الزمن، والتي يمكن تلخيصها بـ«انتظار الانهيار». فزمن الحزب زمن مركّب، أفقه أزمات وانهيارات، من إمكانية اندلاع حرب جديدة إلى احتمال انهيار الليرة اللبنانية، مروراً بتداعي البيئة وإمكانيات العيش السليم. لكّنه أيضاً زمن انتظار، حيث لا يبدو من الممكن فعل أي شيء حيال تلك الاحتمالات الأكيدة، غير الانتظار وتمضية الوقت إما بتكرار شعارات سياسية بائدة أو بنبش ملفات الحرب. الأزمات، بهذا المعنى، ليست فشلاً لزمن «حزب الله» وعهده، بل هي طريقة حكمه وسيطرته، وقد نجحت بإخراج المجتمع كله من الواقع الجديد إلى غرف انتظار هامشية.

زمن «حزب الله» زمن يمرّ فيه كل شيء عبر الحزب. فحتى «المجتمع المدني»، الذي برع سابقاً في تجاهله تفاصيل السياسة اللبنانية، بات اليوم مضطراً لأخذ موقف من الحزب وسلاحه، لتصبح تلك المسألة نقطة انقسامه الأساسية. لكن المجتمع المدني، كـ «بومة منيرفا»، لا يحدّد موقفه إلا بعد حسم القضية. فالنقاش حول تحديد موقف من الحزب بات خارج الزمن، أي زمن «حزب الله»، حيث أي موقف هو موقف منه، حتى إذا كان تجاهلاً له.

قد يتوهم البعض أنّ بمقداره قلب قواعد اللعبة واستبدال الطوائف بتقارير الأمم المتّحدة وزمن الحزب بزمن المواطن الصالح. بيد أن هذا الوهم ليس إلا رفضاً لمواجهة واقع أن «المجتمع المدني» بات اليوم «المجتمع المدني لدولة «حزب الله»»، مهما كان موقفه من هذه الدولة. إنّه إحدى غرف انتظار الأزمات.

إذا كان مستحيلاً الهروب من تحديد موقف من الحزب في زمنه، فهذا لم يعد كافياً اليوم. بكلام آخر، لحظة سيطرة «حزب الله» على النظام هي لحظة ضرورة إعادة التفكير بمعنى معارضته. فـ «سياسة» تسمية الحزب أو معارضة سلاحه أو التلميح إلى دوره بالاغتيالات كانت محكومة بمنطق المرحلة التي سبقت قيام زمن الحزب، والتي لم تعد اليوم ذات واقع سياسي. هذا ليس للقول أنّه ليس من حاجة لمعارضته أو الدعوة للعودة إلى تعميمات فضفاضة كـ «النظام الطائفي» أو «الفساد»، بل إشارة إلى أن مشروع معارضة الحزب بات يحتاج إلى تسييس جديد يأخذ في الاعتبار أنّنا دخلنا «زمن «حزب الله»». بالتالي لا يمكن إعادة إحياء مشاريع الماضي التي حملت المعارضات السابقة لمشاريع هيمنة الحزب. هذه باتت تشكّل عصر ما قبل «زمن «حزب الله»».

ربّما بدأ المدخل لإعادة التسييس هذه برفض نوعين من النقد يقومان على فرضية «خروج» الحزب عن المجتمع اللبناني وتقاليده، فرضية أسست لمقولة «لبننة» الحزب. النوع الأول يقوم على الرفض الأخلاقي لآلة العنف الحزب اللهية، في لبنان كما سورية، واعتبار الحزب قاتلاً دخيلاً على السياسة اللبنانية، يمكن إعادة طرده. فالمجتمع اللبناني قبل بهذا العنف، وبهذا عاد وتبناه كماضٍ. يمكن التمسك بهذا النقد كموقف أخلاقي من الحزب وحاضرنا، بوصفهما خطيئتهما الأوليّة، لكنّ هذا بات أقرب إلى «ممانعة مضادة» مما هو سياسة، أو فولكلور قضائي كما هو حاصل مع المحكمة الدولية. فكما قال زعيم «حزب الله»: «البعض في لبنان لن يرضى مهما فعلنا، فلا تعذبوا أنفسكم وليشربوا مليون محيط... والمهزوم والمكسور يمكنه أن يرفع صوته قليلاً».

أما النوع الثاني فهو الذي يقوم على تناقض جوهري بين الحزب ورغبته بالهيمنة وبين المجتمع اللبناني وحساسياته وتعقيداته. فوفق هذا المنطق، يستحيل على الانتصارات العسكرية للحزب أن تترجم مشروع هيمنة، كون منطق الحياة اليومية اللبنانية لا يستقيم بأوامر حربية. فمن أحداث حي السلم إلى محاكمة الشرتوني مروراً بالانهيارات العصبية لجريدة «الأخبار»، تظهر حدود سيطرة الحزب، الذي عليه أن يراعي انقسامات بيئته وحساسيات الطوائف والسياسة اللبنانية. وهكذا فمشروع هيمنة الحزب محكوم بالفشل أو بالهروب إلى الأمام عبر تفجّر إحدى الأزمات الكامنة في الأفق.

مشكلة هذا النقد، ومن ورائه مقولة «لبننة» الحزب، أنّها تقوم على فرضية وجود «آخر» لـ «حزب الله»، أكان مؤسسة أم منطقاً اجتماعياً، يمكن أن يضبط الحزب. وهذا ما بات مشكوكاً بأمره. قد يكون مدخل إعادة نقد الحزب في زمنه الخروج من هذه الفرضية، وإعادة النظر بتحوّلات المجتمع اللبناني منذ انتهاء الحرب الأهلية، التي أسست لسيطرة الحزب الحالية وجعلته خلاصة سيرورة بات عمرها عقدين ونصفاً. وهي تحوّلات كفيلة بتأكيد أن لا مناعة مجتمعية تجاه سيطرة كهذه، بل أبعد من ذلك، لا رغبة لرفض سيطرة كهذه، فإذا ظهرت حيالها حساسيات طائفية، عرف الحزب كيف يضبطها. فـ «أيديولوجية» العهد الجديد لم تصنع فقط في أروقة وسائل الإعلام التابعة للأحزاب الحاكمة، بل كانت عملاً تشاركياً، تبرعت لإنجازه فئات المجتمع كافة، من كل حسب قدرته إلى كل حسب رغبته. حتى «الطوائف» بات تعريفها يتغير مع تحوّلات المنطقة، وهي تحوّلات للحزب دور فيها في وقت يعود خصومه اللبنانيون إلى سياسة ضيقة، ممسوكة بحدود حرب سورية من جهة، وصراع مع إسرائيل من جهة أخرى، وتحوّلات في البنى التحتية السياسية للمنطقة.

«كله انتصر والغالبية الساحقة سعيدة بلبنان اليوم»، أكّد نصرالله إبان أحد انتصاراته. ربّما كان محقّاً، وربّما على معارضي الحزب أخذ هذه العبارة على محمل الجد. وربّما كانت لحظة إعلان زمن الحزب لحظة اعتراف بأننا كما دائماً نعيش في زمنه، وأن التهديم المنهجي للأطر المجتمعية منذ انتهاء الحرب الأهلية كان ينتظر خلاصة «حزب الله». وربّما هي اللحظة التي ننتقل من نظرة زمانية لصعوده إلى إعادة الاعتبار لفضائه، الفضاء الذي يرسمه عبر شبكات مقاتلين تتقاطع مع شبكات إعمار وشبكات تهجير. وعبر هذه الشبكات، يعيد رسم منطق هذه البقعة من الأرض، الخارج عن الخطاب السياسي التقليدي ومفرداته. لبنان المفيد هو لبنان الذي يرتبط بتلك الشبكات، أما الباقي، فليتصارع حول فيلم زياد دويري إذا أراد.